ألغت المحكمة الإدارية العليا في مصر، اليوم السبت، الحكم الصادر من المحكمة التأديبية لوزارة الصحة وملحقاتها ببراءة 3 عاملين بالهيئة العامة للبريد.
وقضت المحكمة العليا بفصلهم من الخدمة، بسبب إضرابهم عن العمل بالهيئة القومية للبريد واعتصامهم أمام مركز الحركة الفرعي، ما أدى إلى تعطيل العمل به، ثم تحريض زملائهم على زيادة الاعتصام، وغلق المكاتب، مما ترتب عليه إضراب زملائهم، وإغلاق العديد من المكاتب البريدية على مستوى الجمهورية، وتعطيل العمل بها، وعدم قيام الموظفين المختصين بتحصيل المبالغ المالية المستحقة للدولة.
يستعرض “جهود” عدد من الحيثيات التي أوردتها المحكمة الإدارية لتجريم الإضراب عن العمل كوسيلة للمطالبة بالحقوق.
أولا: جميع الدساتير المصرية منذ عام 1923 خلت من النص على الإضراب سوى دستور 2012، الذى نقل عنه دستور 2014، وهو غير قابل للتطبيق بذاته، وجميعها اتفقت على احترام الوظائف العامة وأنها تكليف لخدمة الشعب.
قالت المحكمة إنه بتتبع الدساتير المصرية بشأن الإضراب فإن جميع الدساتير المصرية بدءًا من دستور 1923 ودستور 1930 والأمر الملكي رقم (67) لسنة 1934 بإلغاء دستور 1930، والعودة إلى العمل بدستور 1923 ودستور 1956 ودستور 1964 ودستور 1971 حتى قبل دستور 2012، خلت من ثمة نص يجيز الإضراب أو أية إشارة إليه، ولم يتطرق إلى الإضراب سوى دستور 2012 ومن بعده دستور 2014 فجعل كلاهما الإضراب السلمى حق ينظمه القانون وهو نص غير قابل للتطبيق بذاته طالما أن المشرع الدستوري جعل أمر تنظيمه للقانون، وفى ذات الوقت فإن دساتير مصر السالفة جميعها قد اتفقت نحو احترام الوظائف العامة وأنها تكليف لخدمة للشعب.
ثانيا: لا توجد اتفاقية دولية صادرة عن منظمة العمل الدولية تنظم الإضراب في المرافق العامة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان جاء خلوا من أية إشارات تصريحا أو تلميحا للإضراب كحق، وكثير من رجال الفقه الدوليين يرفضون وصفه بالحق الدولي.
وذكرت المحكمة في هذا الخصوص أنه على المستوى الدولي، فإن الإضراب عن العمل وليد الثورة الصناعية، وما ترتب عليها من زيادة عدد العمال وتكتلهم في القطاع الخاص للزود عن مصالحهم المهنية في عقد العمل التبعي ضد أصحاب الأعمال، وعلى الرغم من أن حق الإضراب مستمد من المواثيق الدولية، إلا أنه لم يحظ على المستوى الدولي بذات الاهتمام، الذى حظى به غيره من الحقوق، إذ لا توجد اتفاقية دولية صادرة عن منظمة العمل الدولية تخص الحق في الإضراب في المرافق العامة، فلم تتضمن كل من الاتفاقية الدولية الصادرة عن منظمة العمل الدولية رقم 87 لسنة 1948 بشأن الحرية النقابية وحماية حق التنظيم، والاتفاقية الدولية رقم 98 لسنة 1949 بشأن حق التنظيم والمفاوضات الجماعية في نطاق القانون الخاص ثمة نص صريح يتعلق بالحق في الإضراب سوى ما قررته لجنة الحريات النقابية التابعة لتلك المنظمة في ربط الإضراب بالعمل النقابي ولكن بقيود وخارج نطاق منظمة العمل الدولية، فإن العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة اعترف صراحة بحق الإضراب لكل مواطن بشرط ممارسته وفقا للشروط والإجراءات التي تقررها دولة معنية وعلى عكس كل ذلك فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان جاء خلوا من أية إشارات تصريحا أو تلميحا للإضراب كحق، ولعل عدم وجود اتفاقيات دولية بشأن تنظيم الإضراب بصفة مستقلة ومباشرة على المستوى الدولي أو الإقليمي وترك تنظيمه وفقا للتشريعات الداخلية لكل دولة هو ما أدى إلى رفض كثير من رجال الفقه بوصفه بالحق الدولي.
ثالثًا: إضراب الموظفين العموميين لا يتفق مع نظام المرافق العامة ويهدم أربعة مباديء للقانون العام، ونظام الوظيفة العامة المنبثقة عن القانون الإداري، حيث أشارت المحكمة إلى إن إضراب الموظفين العموميين أمر لا يتفق مع نظام المرافق العامة لأنه يهدم العديد من المبادئ التي يقوم عليها القانون العام ونظام الوظيفة العامة المنبثقة عن القانون الإداري، فهو أولا يخالف مبدأ رئيسي وأساسي في القانون الإداري وهو مبدا سير المرافق العامة بانتظام واضطراد، وما قد ينجم عنه من تعطيل المصلحة العامة ومصلحة الأفراد المتعاملين مع الإدارة على حد سواء، ومن شأنه الإخلال بعملية تنظيم وسير المرافق العامة في الدولة، والقضاء على ديمومة سيرورة المرافق العامة بصفة منتظمة والمساس بالحياة العامة في المجتمع والدولة وأن أي خلل أو اضطراب في السير الحسن للمرافق العامة سيؤدى إلى شلل وتوقف الحياة العامة والإضرار بمصالح الشعب في الحصول على خدماته واشباع رغباته في الأمن والتعليم والصحة والعدل، فتتوقف المرافق العامة عن العمل خاصة وأن هناك طرقا أخرى متعددة رسمتها مبادئ القانون الإداري للحصول على الحقوق والمطالب مثل التظلم الإداري وسلطة الإدارة في سحب القرار أو تعديله، وحقه في ولوج طريق التقاضي بدلا من اللجوء للعنف الوظيفي عن طريق الإضراب.
كما يخالف الإضراب ثانيا قاعدة التدرج الرئاسي، وما تفرضه من واجب الطاعة واحترام أوامر الرؤساء، حيث يقوم المضربون خلال اضرابهم واحتلاهم أماكن رؤسائهم داخل المرافق العامة بالاعتصام فيها بإحلال سلطتهم محل سلطة الرئيس الإداري، مهدرين واجبات الوظيفة، وذلك من شأنه إهدار مبدأ التدرج الرئاسي، فبدلا من إلزام المرؤوس بأوامر الرئيس الإداري فسوف يفرض المرؤوسون إرادتهم عليه، وفى ذلك مساس بالطابع العام للوظيفة العامة التي تختلف في جوهر مقوماتها عن الوظائف الخاصة في عقود العمل.
ويخالف الإضراب في المجال الوظيفي قاعدة أن الوظيفة العامة تكليف بأَداء خدمة عامة، فالوظيفة العامة لا تنشأ بقصد شغلها بعدد من الموظفين وتقرر لهم عددا من المزايا الوظيفية، بل لأنها تنشأ بهدف تزويد المرافق العامة بالوسائل التي تمكن تلبية الحاجات العامة للجماهير، لذا فإن كافة المزايا الممنوحة للموظفين العموميين مقررة في الأصل لصالح الوظيفة ذاتها ومن يشغلها وليس لصالح الموظفين أنفسهم، ومن ثم فإن الإضراب داخل المرافق العامة يعد صورة من صور الاستغلال غير المشروع للمال العام المخصص لأداء الخدمات العامة للمواطنين.
كما يخالف الإضراب مبدأ العلاقة التنظيمية واللائحية لمركز الموظف العام، وهو المبدأ المتفق عليه في الفقه والقضاء الإداريين على مستوى العالم في الدول ذات النظام اللاتيني، التي تأخذ بنظام القضاء المزدوج ومؤداه أن الموظف العام في مركز لائحي وتنظيمي يحق معه للسلطة العامة أن تتدخل بإرادتها المنفردة بتعديله أو إلغائه في أي وقت تشاء دون أن يكون للموظف العام الادعاء بثمة حق مكتسب في البقاء في وظيفة بعينها، طالما أن ذلك تعبيرا منها عما تتطلبه مصلحة المرفق العام، والإضراب من شأنه دخول المضربين عن العمل الوظيفي في مفاوضات مع السلطة العامة لتعديل مراكزهم اللائحة أو التنظيمية، وهى نتيجة شاذة تأباها طبيعة المرافق العامة، وما تقوم عليه من حسن اختيار موظفيها لتقديم خدمات للشعب.
رابعًا: الإضراب محظور في الوظيفة العامة لتعارضه مع متطلبات المرافق العامة وما تقدمه من خدمات لا غنى للشعب عنها:
وأوضحت المحكمة إن الإضراب لا يمكن قبوله في نطاق الوظيفة العامة، لأن الإضراب يتعارض تعارضًا صارخًا مع متطلبات المرافق العامة وما تقدمه من خدمات لا غنى عنها للشعب ويعجز المواطنون عن الحصول عليها من غيرها، وليست الدولة وحدها التي تتضرر مصالحها وتتعرض للخطر بل يلحق الضرر المجتمع كله الذى سيحرم من الخدمات العامة الضرورية فتتوقف الحياة، وبهذه المثابة فإن الإضراب يعد عملا غير مشروع ضد المصالح العليا للدولة.
خامسًا: الوظيفة العامة تتكفل بمراقبة انحرافات الغير وانحراف أعضائها أكثر خطورة على استقرار الدولة واستمرار مرافقها واضراب الموظفين يترتب عليه فقدان ثقة المواطنين وهم المؤتمنون على مصالح الدولة وأهدافها وتنميتها.
وقالت المحكمة إن تمتع الشخص بوصف الموظف العام يفرض عليه بعض القيود في نطاق ممارسته للحريات العامة في المجال الوظيفي، لأنه يمثل الدولة وعضو في الجهاز الإداري بها القائم على سير المرافق العامة، ولما كانت الوظيفة العامة في جوهرها رسالة تلزم صاحبها باحترام القانون بصفة عامة والقواعد التي استقر عليها القانون الإداري بصفة خاصة وبأداء الواجب وسلامة تصرفاته ومسلكه حتى تؤدى الوظيفة العامة دورها المرسوم باَداء الخدمات لصالح الشعب، وإذا كانت الوظيفة العامة تتكفل بمراقبة انحرافات الغير فإن انحراف أحد أعضائها – من باب أولى – يعد انحرافا أكثر خطورة على استقرار الدولة واستمرار مرافقها، يترتب عليه فقدان ثقة المواطنين في الموظفين العموميين وهم في الأصل المؤتمنون على مصالحها وأهدافها وتنميتها.
سادسًا: إذا كان الإضراب يعد عملا قانونيا في نطاق القانون الخاص بقيود نص عليها المشرع فإنه على عكس ذلك عمل غير مشروع بالنسبة للموظفين العموميين:
وأضافت المحكمة إن الإضراب وإن كان عملا قانونيا في نطاق القانون الخاص بقيود نص عليها المشرع في قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 في المواد من 192 حتى 195 فإنه على عكس ذلك عمل غير مشروع بالنسبة للموظفين العموميين ذلك أن الموظف العام بقبوله الوظيفة الموكلة إليه يكون قد أخضع نفسه بكل الالتزامات والواجبات التي تفرضها الوظيفة العامة وترتبط بها ويكون كذلك قد تنازل عن كافة الخيارات التي تتنافى مع الاستمرارية الضرورية للحياة العامة، وعلى هذا النحو فإن الموظف العام الذى يلجأ إلى الإضراب يعد خارجا عن القواعد التي سنها القانون لضمان ممارسة الحقوق التي تترتب على العقد العام للقانون العام الذى يربط الموظفين العموميين بالدولة، ويمثل تصرفه خرقا لقوانين المرفق العام، لأنه بإضرابه يكون قد ثار على الهدف الأساسي من المرفق ومس مساسا صارخا بالحياة الجماعية، مشكلا خطأ تأديبيًا جسيمًا يستنهض همة هذه المحكمة للحفاظ على المرافق العامة ببتره من الوظيفة العامة.
سابعًا: الإضراب في المرافق الحيوية عدوان صارخ على سلامة الدولة وأمنها الوطني والقومي، وافتئات على الحاجات العامة للأمة:
وذكرت المحكمة وبهذه المثابة يمثل الإضراب في المرافق العامة خاصة الأساسية والحيوية كمرافق التعليم والأمن والصحة والقضاء والاقتصاد القومي عدوانا صارخا على سلامة الدولة وأمنها الوطني والقومي من ناحية، وافتئاتا جسيما على المصلحة العامة المتمثلة في الحاجات العامة للأمة وحقوق المواطنين للحصول على خدماتهم الدستورية ويغدو معه إضراب الموظفين العموميين تعبيرا عن إيثار مصالحهم الشخصية على الصالح العام وهو ما يعد خروجا سافرا عن مبادئ وأسس القانون العام ونقضا للعقد العام التنظيمي الذى يربط الموظف العام بالدولة، واَية ذلك أن المشرع العادي ذاته وفى نطاق القانون الخاص، حينما نظم حق الإضراب لعمال القطاع الخاص في المواد من 192 حتى 195 من قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 المشار إليه، حظر فيه الإضراب أو الدعوة إليه في المنشآت الاستراتيجية أو الحيوية التي يترتب على توقف العمل فيها الإخلال بالأمن القومي أو بالخدمات الأساسية التي تقدمها للمواطنين أو اضطراب في الحياة اليومية لجمهور المواطنين. وهى الفكرة الجوهرية التي استقاها المشرع العادي مما استقرت عليه قواعد القانون الإداري في نطاق القانون العام.
ثامنًا: حظر المحكمة للإضراب الوظيفي يسانده ما قررته الأجهزة الرقابية لمنظمة العمل الدولية من عدم المساس بالمرافق العامة الأساسية والحيوية:
وأشارت المحكمة إلى إن ما انتهجته هذه المحكمة بحسبانها على القمة من محاكم مجلس الدولة المصري من التجريم التأديبي للإضراب في المرافق العامة خاصة الأساسية والحيوية، فإنه فضلا عن أسانيده المتصلة بعدم إهدار المبادئ التي استقرت بها قواعد القانون الإداري والقانون العام المتصلة ببقاء سلطات الدولة والحفاظ على كيانها على نحو ما سلف بيانه، فإنه يجد سنده الدولي فيما قررته منظمة العمل الدولية من قاعدة أرستها أجهزتها الرقابية كلجنة الخبراء ولجنة الحريات النقابية تتتمثل في أن حق الإضراب يجب ألا يمس المرافق العامة الأساسية والحيوية كمرافق الأمن والتعليم والصحة والقضاء والاقتصاد بقولها: ” تلك المرافق التي يعرض انقطاعها خطرا على حياة أو أمن أو صحة الأشخاص في مجموعهم أو جزء منهم “، وهى وإن كانت مبادئ لا تتمتع بقيمة أعلى من قيمة المعاهدات الدولية إلا أن لها تأثير كبير في توجيه سياسات الدول الأعضاء وتوحيدها في هذا المجال نظرا لما تتمتع به هذه الأجهزة بسلطة معنوية سامية للحفاظ على كيان الدول من الانهيار.
تاسعا: جميع أنواع لإضراب محظورة: التقليدي والدائري والقصير والمتكرر والتوقيفي المفكك والبطيء والمستتر والاعتصام (الإضراب مع احتلال موقع العمل):
وقالت المحكمة إن الإضراب لا يتفق مع نظام دوام المرافق العامة في الدولة أيا كان شكل الإضراب أو نوعه، وسواء اتخذ صورة الإضراب التقليدي الذى يعمد فيه المضربون عن العمل تاركين في نفس الوقت أماكن عملهم، أو الإضراب الدائري الذى يقوم على التخطيط والتنظيم المحكم المتتابع لأكثر من قطاع في العمل وهو ما يعرف بالإضرابات المبرمجة، أو الإضراب القصير والمتكرر وهو ما يعرف “بالإضراب التوقيفي المفكك” يقوم فيه المضربون بتوقفات عديدة ومتكررة في أوقات زمنية معينة ولو كانت قليلة، وقد استقر القضاء الفرنسي في قرار Oliveira المؤرخ 11 يونيو 1981 بأن الإضراب القصير يتحقق بالتوقف عن العمل لمدة ساعتين بطريقة متتالية كل ربع ساعة وانتهى خصم أجور المشاركين في الإضراب، أو الإضراب البطيء أو إضراب الإنتاجية وهو ما يعرف بالإضراب المستتر أو الجزئي حيث يبقى العامل في العمل لكنه يعتمد على تخفيض الإنتاج ويكتسب فيه العامل صفة المضرب من اللحظة التي يبدأ فيها ابطاء الإنتاج والتقليل من فعاليته، أو إضراب المبالغة في النشاط أو الإضراب الإداري وهو الذى يتضمن تصعيدا في النشاط ويتمسك المضربون بمطالبهم إلى حد التطرف بصورة مفاجئة مما ينجم عنه عدم الثقة في المؤسسة التي يعلمون بها، أو الإضراب مع احتلال أماكن العمل وهو ما يسمى بالاعتصام وفيه يتوقف المضربون عن العمل لكنهم يبقون داخل أماكن عملهم بصورة تناوبية بقصد منع غيرهم من العمل وهو غير مشروع بالنظر إلى أنه يمس حرية الموظفين غير المضربين في العمل، أو الإضراب السياسي الذى يكون في حالة التنديد بقرار اتخذته السلطة العامة في الدولة وهو غير مشروع ويشكل خطأ جسيما لأنه شرع للدفاع عن مصالحهم المهنية وليس التعبير عن اَرائهم السياسية، ومؤدى ما تقدم أن جميع الأنواع المذكورة سلفا عن الإضراب تتعارض تعارضًا صارخًا مع مبدأ دوام سير المرفق العام بانتظام واضطراد، ذلك أن مبدأ الاستمرارية يقتضى استبعاد كل ما من شأنه إيقاف أو تعطيل سير المرفق العام، ولا ريب أن الإضراب يؤدى إلى تعطيل العمل بالمرفق ويضر بمصالح المواطنين المنتفعين بخدمات المرفق، كما أن الإضراب يؤدى إلى الاضطراب في المرفق العام وتعريضه للخطر بشكل ظاهر وغير عادى وفيه يتطاول الموظفين على الجهات الإدارية التي يعلمون بها فتنهار الوظيفة العامة.
وقد تعرضت المحكمة لتأصيل حظر الإضراب في المجال الوظيفى في فرنسا بمروره بمراحل عديدة بين الحظر والإباحة مدعما بأحكام مجلس الدولة الفرنسي كما عرضت المحكمة للتطور التشريعي للإضراب في مصر ومروره بمراحل تشريعية عديدة بعد عام 1923 في العصر الملكي حتى العصر الجمهوري.
عاشرًا: عمل الهيئة القومية للبريد يتصل مباشرة بمصالح المواطنين في كافة مناحي الحياة والموظف العام أداة الدولة المنفذ لإرادتها ومشيئتها وفقا لمبدأ الولاء الوظيفي.
وأضافت المحكمة إن سلوك العاملين بالهيئة القومية للبريد ينعكس أثره على سلوكهم العام في مجال الوظيفة لاتصاله المباشر بمصالح المواطنين في كافة مناحي الحياة حيث تختص وفقا للمادة الثانية من القانون رقم 19 لسنة 1982 بإنشاء الهيئة القومية للبريد بالقيام بنقل الرسائل والطرود البريدية وكذلك بأداء الخدمات المالية البريدية وأعمال صندوق توفير البريد، وإنشاء وإدارة وصيانة المنشآت والأجهزة اللازمة لتقديم تلك الخدمات وتنفيذ المشروعات اللازمة لتحقيق أغراضها أو المرتبطة بهذه الأغراض وتطوير خدماتها والتعاون مع الدول الأجنبية والمنظمات الدولية المختصة لتدعيم وتطوير الاتصال البريدي الدولي، وبالتالي تقدم الهيئة القومية للبريد للمواطنين العديد من الخدمات الحكومية، عبر مكاتبها المنتشرة في جميع أنحاء الجمهورية حيث تتسابق العديد من الهيئات والوزارات لتقديم خدماتها عقب عمليات الميكنة وتحديث المكاتب وتزويدها بأحدث النظم التكنولوجية، ومن بين أهم تلك الخدمات خدمة صرف المعاشات والحوالات الحكومية والاحوال المدنية والتصديق القنصلي والحوالات المجمعة وتحصيل اقساط الإسكان الاجتماعي المخصص لشهداء ومصابي الشرطة ودفع ايجار الإسكان الاجتماعي وغيرها من خدمات المواطنين، مما يستلزم على الدوام على الموظف العام المنتمي إليها تحقق السلوك القويم الصالح جنبا إلى جنب للكفاية المهنية، وهو ما يوجب ألا يكون هُناك انحرافًا يمس المسلك القويم يؤثر تأثيرًا سيئًا على الوظيفة التي حرص المشرع على إحاطتها بسياج من الاحترام، فإذا قبل لنفسه هذا السوك، أصبح موقفا معيبا بالخروج الصارخ على قواعد العمل وامتنع عن اَدائه معطلا حق مرفق البريد في اَداء دوره، فإنه يكون قد انحرف بوظيفتها عن غاياتها ذلك أن الموظف العام هو أداة الدولة والمنفذ لإرادتها ومشيئتها وفقا لمبدأ الولاء الوظيفي، الذى يفرض عليه أن يؤدي واجبه بعناية وإخلاص وأمانة بغض النظر عن عقيدته الذاتية وانتماءاته الشخصية، فالوظيفة العامة تنبثق من سيادة الدولة وهو المعبر عنها في اَداء الخدمات للمواطنين دون امتناع أو تمرد وإلا خرج على مقتضى الواجب في أعمال وظيفته وظهر بمظهر من شأنه الإخلال بكرامتها فتدق عليه موازين العقاب.
حادي عشر: العاملون الثلاثة أضربوا عن العمل بالهيئة القومية للبريد عام 2014 وحرضوا زملائهم على الإضراب وتم إغلاق العديد من المكاتب البريدية على مستوى الجمهورية (المنوفية والشرقية والجيزة وأسيوط وبنى سويف ) مما منع الموظفين المختصين بتحصيل المبالغ المالية المستحقة للدولة.
وأوضحت المحكمة أن الثابت في الأوراق أن المطعون ضدهم قد أضربوا عن العمل بالهيئة القومية للبريد أيام 23و24و25/2/2014 معتصمين أمام مركز الحركة الفرعي خلال تلك الأيام مما أدى إلى تعطيل العمل به، وقاموا بتحريض زملائهم على زيادة الاعتصام وغلق المكاتب مما ترتب عليه إضراب زملائهم وإغلاق العديد من المكاتب البريدية على مستوى الجمهورية وتعطيل العمل بها وعدم قيام الموظفين المختصين بتحصيل المبالغ المالية المستحقة للدولة، كما قاموا خارج المبنى الرئيسي لرئيس مجلس إدارة الهيئة القومية للبريد بالعتبة مع غيرهم بالتطاول بالألفاظ والهتافات معادية وطلبات فئوية بصرف أرباح شركة الاتصالات وعلاوة دورية وصرف بدل الولاء والانتماء على الشامل بدلا من الأساسي، ومن بين تلك المكتب التي تأثر بها الإضراب وأغلقت مكاتبها البريدية منطقة بريد شمال المنوفية حيث أضرب العاملين بها وتم غلق 56 مكتب غلقا كليا فضلا عن 34 مكتب غلقا جزئيا ومنطقة جنوب المنوفية تم غلق 33 مكتب بها غلقا كليا ومنطقة بريد الشرقية التي أدى الإضراب بها إلى عدم خروج معظم السواير، ومنطقة بريد جنوب أكتوبر محافظة الجيزة حيث تم إغلاق مكتبي العياط وأبو النمراسي غلقا كليا، ومنطقة بريد أسيوط بإيقاف العمل بمكاتبها البريدية، ومنطقة بريد بنى سويف حيث تم غلق 11 مكتبا غلقا كليا وتم سرقة مكتب بريد الوسطى فرعى، وقد ترتب على تلك الإضرابات تعطيل سير العمل بمكاتب البريد والإضرار بمصالح المواطنين المتعاملين مع الهيئة القومية للبريد والحاق خسائر فادحة بالهيئة.
وعروجا على ما تقدم تكون المخالفة المنسوبة إلى المطعون ضدهم ثابتة ثبوتا يقينيا في حقهم على نحو ما شهد به (إ.ع.م) رئيس قطاع الشئون القانونية بالهيئة القومية للبريد أثناء انتقاله لموقع الإضراب وبرفقته كل من (م.ع.) و(و.ع) المحاميان بالقطاع المذكور حيث تبين لهم وجود (ع.ع.ح) مدير عام الأمن بالهيئة الذى كان يقوم بحصر الأسماء وإعداد مذكرة للعرض على رئيس مجلس إدارة الهيئة وورد بها 18 اسما من المضربين وبدأت الأعداد تتزايد حتى وصلت خمسين مضربًا لكنه استطاع حصر 18 مضربا منهم، وكان من بينهم المطعون ضدهم، إلا أنه نظرا لأنه قد تبين من أن زملاءهم الأخرين يعملون بمحافظات أخرى فقد تم إحالة كل منهم للنيابات الإدارية المختصة بالمحافظات التى تقع في دائرتها عمل كل منهم، ومن ثم فإنهم يكونوا قد خرقوا الاستمرارية الضرورية للسير الاعتيادى للوظيفة العامة المكلفين باَدائها ومسوا مبدأ انتظام سير مرفق البريد وأخلوا إخلالا جسيما بواجباته الأساسية وعطلوا مصالح المواطنين المنتفعين بخدمات البريد وحرضوا زملائهم على مستوى الجمهورية على الإضراب بما يؤثر تثيراُ مُباشراُ في كيان الوظيفة واعتبارها ويتعارض مع الثقة الواجبة فيهم، يفقدون معه شرط صلاحية تولى الوظائف العامة ويصمهم بالمسلك السيئ الواجب بتره من جسد الوظيفة العامة، ومن ثم يكون ما نسب إلى المطعون ضدهم ثابتا ثبوتا يقينيا في حقهم بغض النظر عن عدد الأيام التي أضربوا خلالها عن العمل، مما يتعين معه القضاء بإلغاء الحكم المطعون فيه الصادر من المحكمة التأديبية لوزارة الصحة وملحقاتها والقضاء بفصل المطعون ضدهم من الخدمة.
ثاني عشر: التعارض بين حقين دستوريين حق الاضراب السلمى وحق المواطن في استئداء خدمات المرفق العام يوجب تغليب الحق الدستوري الجماعي المتعلق بمصالح المواطنين.
واستطردت المحكمة أنه لا يفوتها أن تشير إلى أن وجود نصين دستوريين الأول يتعلق بحق الإضراب السلمى وفقا للمادة 15 من الدستور ولم يضع له المشرع تنظيما داخل المرافق العامة والثاني يتعلق بحق المواطن في احتواء خدمات المرفق العام وفقا للمادة 14 منه وتدخل المشرع فيه في قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016 ونصت المادة الأولى منه على جعل الوظائف المدنية تكليف للقائمين بها لخدمة الشعب ورعاية مصالحه وفى مجال التعارض بين حقين دستوريين فإنه ينبغي تغليب الحق الدستوري الجماعي المتعلق بمصالح المواطنين الذى قرره ونظمه كل من المشرعين الدستوري والعادي عن الحق الدستوري الفردي الخاص بحق الإضراب، ومن هنا تكمن العلة من تقرير هذه المحكمة وسنها لحظر الإضراب في المرافق العامة، فليس من المقبول أن يهجر الموظفون العموميون عملهم بقصد تحقيق مطالب تتنافى ومبدأ سيرورة واستمرارية المرافق العامة، فتتعطل إشباع الحاجات العامة، ويستحيل على المنتفعين الحصول على حاجاتهم الضرورية التي تعودوا على قضائها من تلك المرافق العامة.
ثالث عشر: إزاء سكوت المشرع فإن المحكمة تتحمل مسئوليتها القانونية نحو إرساء دعائم الحق والعدل بما يحفظ لسلطات الدولة الإدارية استقرارها ودوام سير المرافق العامة بانتظام واضطراد بما يتلافى التعطيل عن الدوام الرسمي لعمل تلك السلطات.
اختتمت المحكمة إن اعتراف الدستور المصري بحق الإضراب لا يعني استبعاد القيود التي تحده كغيره من الحقوق الدستورية الأخرى، ويكون للحكومة إزاء فقدان النص القانوني المنظم له أن تضع بنفسها باعتبارها مسئولة على حسن سير المرافق العامة وتحت رقابة القضاء القيود التي يجب اتخاذها لممارسة هذا الحق منعا من استعماله كوسيلة لمخالفة النظام العام حماية للنظام العام من جهة ولضرورة دوام سير المرافق العامة من جهة أخرى. وإزاء سكوت المشرع فإن هذه المحكمة تتحمل مسئوليتها القانونية نحو إرساء دعائم الحق والعدل بما يحفظ للسطات الدولة الإدارية استقرارها ودوام سير المرافق العامة بانتظام واضطراد بما يتلافى التعطيل عن الدوام الرسمي لعمل تلك السلطات مع الحرص على توفير كافة الضمانات التأديبية السليمة.