عندما كان هناك تدرج ثقافي عالمي، كان الأوروبيون يرون ثقافتهم هي الأعلى والأرقى بين جميع الثقافات، وعلى كافة الشعوب عاجلاً أم آجلاً أن يرتقوا بثقافتهم إلى مستوى الثقافة الأوروبية، وكان على المهاجرين دائماً إلى أوروبا أن يتخلوا عن هويتهم واختلافهم، ويندمجوا كما يريد السكان، ويكونوا مثلهم.
وهذا هو ما يسمى بالابتلاع أو «الاستيعاب»، ويسميه عالم الانثروبولوجيا شتراوس «أن تأكل الاختلافات» وكان هذا البديل نسخة حديثة من «استراتيجية آكلي لحوم البشر»، وهي النسخة التي سبقت «كورونا».
اليوم حين واجه العالم الجائحة الصحية، كان عليه أن يجد حلاً للمشاكل الاقتصادية، خصوصاً بعد خسارة قطاع الأعمال والمهن والوظائف خسارات فادحة، فكان اللجوء إلى تبني آليات اقتصادية جديدة هو الحل الوحيد للخروج من هذا المأزق الحرج، وكان لا بد من استخدام أدوات التكنولوجيا لممارسة هذا الاقتصاد الجديد كخيار وحيد.
ومن هنا، أصبح هذا الاقتصاد الجديد يمثل الثقافة العالمية الواحدة التي فرضت نفسها على العالم بأسره وعلى الجميع أن يتخلى عن اختلافه وينسى خصوصيته لممارسة هذا الاقتصاد وينجو. وكان هذا الاقتصاد هو القاسم المشترك بين العالم ويشبه في تفاصيله تفاصيل «استراتيجية آكلي لحوم البشر» وثقافة الابتلاع أو الاستيعاب والصب في القالب.
لا أحد في ظل جائحة «كورونا» يستطيع أن يتبنى ثقافة اقتصادية لها خصوصية وتحمل ملامح مختلفة عن العالم ومستقلة عن أدوات التكنولوجيا وبعيدة عن استخدامها، بل الجميع مجبرون على هذه الممارسة الاقتصادية.
لقد كرست آليات هذا الاقتصاد نفسها للفردانية والذاتية الصرفة في الممارسة، ولم يعد ثمة أهمية لأن يكون الفرد الذي يمارس هذا الاقتصاد من حملة المؤهلات المتخصصة في الاقتصاد، أو ذا خبرة كبيرة ليحقق
النجاح، كما لم يعد مهماً وجود كيان مؤسسي يحمل اسماً أو علامة تجارية، وله موظفون ورخصة مزاولة عمل ليحقق الرواج والانتشار والأرباح، فقط جهاز كمبيوتر متصل بالإنترنت، ويجلس أمام شاشته شخص يريد أن يعمل.
لقد حطمت الجائحة المركزيات الكبرى للاقتصاد النمطي المتمثل في الشركات والكيانات المؤسسية، وبالمقابل فقد صنعت في الوقت ذاته مركزيات اقتصادية صغرى، تمثلت في هذه الكيانات الفردية التي تعتمد على منتجات التكنولوجيا وتطبيقاتها لتحقيق الدخل؛ كانت الممارسة الاقتصادية عامة ولها ثقافة جمعية، وكانت متمركزة في مجموعة من الكيانات المؤسسية.
فتسببت جائحة «كورونا» في تحويلها من العام إلى الخاص ثم تمركزت من جديد في كيانات فردية لتنطلق مرة أخرى عبر أدوات التكنولوجيا من الخاص إلى العام.
تقول المعطيات الحالية لعصر «كورونا»، إن قادة الاقتصاد في المستقبل قادمون من وراء شاشات الكمبيوتر، أي أن الاقتصاد سيأخذ ملامح الأفراد بدلاً من ملامح الكيانات المؤسسية النمطية التي ألفها العالم قبل «كورونا»، ويمكن صياغة سؤال في نهاية هذا المقال: ما هي الرؤية التي يمكن أن يحملها الاقتصاد الذاتي، وما هو الوضع الذي سيؤول إليه العالم وفقاً لهذه الرؤية؟
هل ستحقق أفضل مما حققته الكيانات الاقتصادية المؤسسية؟ وهل يمكن أن يكون في تفاصيلها حلاً جذرياً لمسألة القضاء على الفقر؟! وللحديث بقية.
الكاتبة خبيرة اقتصاد معرفي
نقلا عن “البيان”