” يعطس الأغنياء فيصاب الفقراء بالزكام ” ، هكذا بدا الحال لدى سكان محور المحمودية المزمع إنشاءه ، و الذين أزيلت منازلهم التي عاشوا بها لسنوات بجرة قلم تكلفتها خمسة مليارات لصنع ( طريق ) على أنقاض منازل الفقراء .
فمحور المحمودية هو محور مروري قيد الإنشاء بطول 54 كم ، و كان من المقرر أن يتم ذلك بردم وتغطية المجرى المائي لترعة المحمودية من خلال خطوط مواسير مدفونة ذات قطر كبير ، إلا أن أعمال الإنشاء قد بدأت بهدم منازل في قرى البحيرة وسط صرخات الأهالي المتضررين الذين قدموا عروضاً بأن يدفعوا تكلفة ردم ترعة المحمودية على أن يبقوا على منازلهم ، إلا أن صرخاتهم لم تلقى أذناً لتسمعهم حتى الآن .
و يبدأ المحور من مركز المحمودية حتى محافظة الإسكندرية ، حيث يمر بعدة مناطق ذات كثافة سكانية عالية هي “دمنهور، وأبو حمص ، وكفرالدوار”، و تبلغ تكلفة المشروع نحو 5 مليارات جنية.
يرى المتضررون من سكان المحمودية أنه على الحكومة المصرية أن تكفل المرونة في استراتيجيات الإعمار والتنمية ، تجاه توثيق ملكيات مواطنيها مع إيلاء الأولوية لأولئك الذين يعيشون في حالات الفقر المدقع، و الذين يقيمون بهذه المنازل منذ عشرات السنين.
كما أنهم يتساءلون عن جدوى وجود قوانين – كانت لتحمي حقوقهم لو تم العمل بها – ، في بلد يدعي بأنه بلد القانون .
حيث يُعتبر الميثاق الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر عام 1966 أساس الحق في السكن الملائم، ويشير إلى “حق كل شخص في مستوى معيشي كافٍ له ولأسرته، يوفر ما يفي بحاجتهم من الغذاء والكساء والمأوى، وبالحق في تحسين متواصل لظروف المعيشة” (المادة 11).
كما تنص المادة 78 من مشروع الدستور على أن “تكفل الدولة للمواطنين الحق فى المسكن الملائم… بما يحقق العدالة الإجتماعية”.
كما تنص أيضاً على أنها “تنظم استخدام أراضى الدولة… بما يحقق الصالح العام”.
غير أن هذه البنود القانونية المتعلقة بحق السكن تفتقد لتفعيلها على أرض الواقع ، في صور شتى أهمها توفير ما يسمى بـ ” أمن الحيازة ” – المتعلق بفقراء الحضر- ، و هو ما أوصت الأمم المتحدة الدول الأعضاء – و منها مصر – بتوفيره لمواطنيها في مجلس حقوق الإنسان [ الدورة 25 ] لعام 2013، و يُقصد بأمن الحيازة مجموعة من العلاقات بشأن السكن والأرض تنشأ بموجب قوانين تشريعية أو عرفية أو ترتيبات غير رسمية أو مختلطة وتمكّن الفرد من العيش في منزله بأمانٍ وسلامٍ وكرامة.
ويشكل أمن الحيازة جزءاً لا يتجزأ من الحق في السكن اللائق ومكوِّناً ضرورياً للتمتع بكثير من الحقوق المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية الأخرى.
وينبغي لكل فرد أن يتمتع بدرجةٍ من أمن الحيازة تضمن له الحماية القانونية من الإخلاء القسري لمسكنه ومن المضايقات وغير ذلك من التهديدات.
و تشمل إجراءات تأمين الحيازة التي أوصت بها الأمم المتحدة عدة إجراءات منها : توطيد الأشكال المتنوعة للحيازة و التي تتضمن حقوق الملكية المكتسبة بوضع اليد ، أو الترتيبات الجماعية ، وهو ما تنتهكه مصر في الأعوام الأخيرة ميدانياً و إعلامياً حيث تطلق لفظ ” التعديات ” على كل الأراضي و مشاريع البناء التي تمت من خلال وضع اليد أو الترتيبات الجماعية كما هو حاصل في محور المحمودية .
بل إن مفهوم تأمين الحيازة التي أوصت به الأمم المتحدة أعضائها يشمل أيضاً ” تحسين مستوى أمن الحيازة ” و التي تشتمل على العديد من الإجراءات التي تتضمن “اعتماد تشريعات أو تنقيح التشريعات القائمة من أجل الاعتراف بترتيبات الحيازة المتعددة وحمايتها” .
و يروي أحمد.م أحد المتضررين من المشروع تفاصيل مايحدث فيقول “مبدئياً كده مشروع محور المحمودية شامل جانبي ترعة المحمودية من مركز المحمودية حتي الإسكندرية مروراً بمناطق دمنهور وأبو حمص وكفر الدوار يعني حوالي 60 كيلو متر على الجانبين ؛ وضع المنازل بيختلف من واحد للتاني ومن منطقة للتانية بالنسبة للمراكز (المدن) دي كلها أراضي بعيدة عن الأراضي الزراعية والناس معاها أوراقهم ونسبة كبيرة من المباني دي منشآت حكومية من بنوك لسنترال لأقسام شرطة لغيره غير الأبراج والعمارات لأنه شارع رئيسي وأكبر شارع في المراكز التلاتة .
بالنسبة بقى الريف والقرى فالمناطق دي اتوزعت على الفلاحين مع الأراضي الزراعية اللي أخدوها في ثورة يوليو كل فلاح أخذ أرض زراعية أخد معاها جزء يبني عليها بيت -الكلام ده من الخمسينات- ، وكانت بمثابة حكر تابع للإصلاح الزراعي عدد بسيط من الناس نقل ملكيتها والمعظم فضل الوضع على ماهو عليه عشان في الريف زي ما الكل عارف الأمور بتمشي بالعرف مش بالأوراق فكان كل بيت أو أرض الكل عارف صاحبها بدون مايكون معاه ورق وفضل الوضع هكذا من الخمسينات حتى الآن ” ثم يكمل قائلا “بجوار هذه المنازل يوجد الكثير من المنشآت الحكومية على نفس الصف بالظبط كمثال مدارس حكومية وأقسام شرطة ومصانع وشركات حدودهم نفس حدود المنازل وهذا يثبت أنها ليست مخالفة لأن الحكومة هي اللي بنياها ”
وعند سؤاله عن توافر الخدمات بهذه المنازل قال ” بالنسبة لعدادات المياه والكهرباء كلها مسجلة بأسماء أصحابها وكلهم وضعهم قانوني 100% مفيش حتي 1% ممارسة وده يثبت أن الحكومة كانت موافقة وضعهم 100% “.
ثم يتساءل أحمد ” إيه اللي اتغير في موقف الحكومة مش عارف !”.
وبسؤاله عن ما إذا كانت هناك تعويضات للمتضررين من هدم المنازل قال “بالنسبة للتعويضات فطلع كتير من الإشاعات أولها اننا هنبقى زي سكان القاهرة الدائري والمحور وهناخد 30 ألف في الأوضة وبعدها قالوا هيدفعوا 75 ألف للشقة المأهولة وبالفعل مرت لجنة حصر وأخذت بطايق الناس وحصرت عدد الشقق وذكروا إن ده للتعويضات وإن إحتمال يتم نقل المتضررين لمنطقة بكفرالدوار تشبه مساكن بشاير الخير ؛ آخر كلام وصل إن مفيش تعويضات عشان دي أملاك الدولة وإن حتى تكلفة الإزالة هتبقي علي صاحب العقار بل ممكن يتحبس أو يتغرم كمان وهذا إجحاف كلي “.
ويكمل ” بأي حق واحد قاعد في بيته بقاله 70 سنة تخرجه وبدون أي تعويض بل بتهمة إنه ساكن في بيته !”.
ثم يسكت لبرهه ويستطرد قائلا” أنا معايا كل الأوراق بتاعت البيت و إيصالات كهربا ومية ؛منزلي قدامه 28 متر لحد المحمودية وعايزين أمتار تاني ”
ويكمل ” عندنا ناس اتقبض عليها لمجرد إنهم كلموا مع بعض على الإزالات فضلوا فترة محدش عارف عنهم حاجة ولما خرجوا هدوا بيوتهم بنفسهم”.
” لو الوضع زي القاهرة كنا قولنا ماشي إنما هنا فيه ترعة كبيرة ممكن تردم منها، والناس مستعدة تدفع تكلفة الردم كمان زي ما حصل في إسكندرية ومفيش بيوت اتهدت إنما البحيرة أرياف ومحدش بيبصلها”.
وتلتقط طرف الحديث سيدة أخرى رفضت ذكر اسمها وتقول في حسرة واضحة “والله تعبت أنا وجوزي وأولادي من مكان لمكان ومحدش استحمل نقعد عنده جوزي مش بيشتغل وأولادي إتشردوا من المدارس والله اتبهدلنا بجد”.
بينما تقول منى حسن وهي أحد المتضررين أيضاً : “أنا إنتخبت السيسي عشان نعيش عيشة كريمة بس للأسف بالنسبالي هدم كل ما نملك ” وتكمل ” عندي سؤال للسيسي انت بتنام و انت حرمت طفل عنده سنه ونص من كوب لبن أو قطعة لحمة أو غيار له ، وحرمت أمه من الأكل وحرمت إخواته من الأكل عشان أنت هدمت بيتهم وأكل عيشهم ؛ أقسم بالله دي حقيقة ياريس إتقي الله فينا بدل ماتبعت مساعدات تساعد الدول ساعد أهل المحور اللي خربت بيتهم وشردت أهلهم” ، ثم تكمل ” حوارك الأخير صدمنا وقررت عدم سماع أي خطاب تاني لأن خطابك كان كله تهديد “.
وتلتقط حبيبة رضوان طرف الحديث قائلة “حسبنا الله ونعم الوكيل في كل ظالم ؛ كنا بنحبك وأصبحنا بنكرهك كره العمى ، ده أنت ياريس اللي كنت بتتكلم بالحب ، لكن المرة دي الغل والكراهية وصلت لكل واحد في الشعب ؛ياريت تفكر في الناس الغلابة عاشوا طول عمرهم يعملوا في بيت وأنت بكل سهولة عاوز تهده ؛ حسبنا الله ونعم الوكيل في كل ظالم”.
بينما يقول محمد السيد ” أخيرا لقيت حد عايز يتكلم عننا”.
ويكمل موجهاً كلامه للمسؤولين ” بعد ماهديتوا البيوت اللي كانت سترانا وسترا ولادنا ورميتونا في الشارع ، لا وبتقول حياة كريمة! أين “الحياة الكريمة” من سكان محور المحمودية ، نحن متشردي محور المحمودية ومع ذلك أنا مع التنمية والتطوير بس متهدش بيتي وترميني في الشارع ، لابد من إيجاد حل خصوصاً إن أصلا مافيش تعويضات أرجو من السادة المسؤولين النظر إلينا نظرة رحمة فنحن مصريين و بنحب تراب مصر ،وأغلى ما في حياة المواطن هو الوطن فاذا ضاع ضاع كل شئ”.
فإذا كان الوطن هو أغلى ما في حياة المواطن ، فإن سقف المنزل هو أهم ما في حياة الإنسان وبدونه يفقد أمانه و يفقد أيضاً إحساسه بالمواطنة ، فهل ستحترم الحكومة المصرية “حق السكن” و “أمن الحيازة ” أم أن الإزالة ستستمر تحت شعار ” الصالح العام هو إنفاق المليارات على طريق يهدم بيوت مئات الفقراء” ؟