منذ مطلع الربع الأخير من القرن العشرين، يعيش لبنان في خضم أزمات سياسية وأمنية واقتصادية وإجتماعية متلاحقة، تُثقِل على مواطنيه وتدفعهم من حضن أزمة إلى أحضان أزمات أخرى. ولعل أكثر من يعاني من هذا الوضع المضطرب وغير المستقر، هم العمال اللبنانيون بمختلف فئاتهم، وعلى كافة الأراضي اللبنانية.
فالانقسامات السياسية الحادة التي يعيشها اللبنانيون، أصابت الحركات العمالية والنقابية في الصميم، فقسّمتها وشرذمتها وأبعدتها عن جوهر العمل النقابي الوطني السليم، ودفعتها إلى التقوقع في تنظيمات فئوية وطائفية ومناطقية وحزبية ضيقة ومتنافرة، في وقت تتفاقم الأزمة الاقتصادية والإجتماعية وتزداد حدةً وتدهوراً، دون أن تُفرّق بين مواطنٍ وآخر، ولا تسأل عن فئته أو طائفته أو حزبه أو مذهبه.
إن الإنكفاء خلف المتاريس الحزبية والطائفية والمذهبية لم يزد وضع العمال إلا تعقيداً وتراجعاً باتجاه الإنهيار، وإذا فقد العمال وحدتهم وإنتماءَهم إلى قيمهم الإنسانية، لن يكونوا في أحسن أحوالهم إلا أزلاماً عند الإقطاع السياسي والإقتصادي، والذين استطاعوا أن يحولوا الأزمات الإقتصادية والإجتماعية في الوطن، من أزمات إدارية يمكن حلها عبر الخبراء، الى مذابح طائفية ومذهبية وفئوية يتولاها الخطباء من على منابر الشحن والتحريض. وبدل أن يكون الصراع الإجتماعي بين العمال وبين الطبقة السياسية والإقطاعية والطائفية الحاكمة، نجد أن الصراع على المصالح هو بين أطراف هذه الطبقة، بينما العمال هم أدوات مستغلّة ومقسّمة بين أطراف هذا الفريق لترجيح كفة أحدهم على كفة الآخر.
أليس من المفارقات أن يشارك العمال في مسيرات المبايعة لملوك وأمراء الطوائف، ويَقتُلون ويُقتَلون أحياناً في سبيل هؤلاء، وفي سبيل بقائهم على عروشهم التي بُنيت على أكتافهم وأكتاف أطفالهم؟ بينما هم لا يحركون ساكناً للمشاركة في تحركات مطلبيّة جامعة تتمحور حول الحق في الرغيف، والحق في المقعد الدراسي، والحق في الطبابة والإستشفاء، والحق في حرية التنقل، والسكن، وإبداء الرأي، والحق في الإستفادة من شاطىء البحر وضفة النهر، والحدائق العامة، والأحراج، وينابيع المياه، ومراكز الآثار، والحق في العيش في بيئة نظيفة وآمنة.
إن المشكلة التي يعاني منها عمال لبنان أصبحت مشكلة حقيقية ومزمنة وتتهدد بأن تصبح معضلة يصعب حلها بإجراءات عادية، وبالرغم من أن العمال أنفسهم يتحملون جزء من هذه المسؤولية، إنما الجزء ألأكبر تتحمله النقابات والقيادات النقابية والسياسية في البلد، وبخاصة الأحزاب والتيارات التي تدعي الحرص على العمال والحركة العمالية.
إن كل هذا الضجيج لا يبرىء الحركة النقابية من مسؤوليات ترتيب بيتها الداخلي وإعادة تنظيم صفوفها إن هي أرادت ذلك، بل قل إن هي استطاعت ذلك، فأزمة العمل النقابي لها أكثر من سبب ومن بعد بنيوي وتنظيمي وسياسي وطائفي وفئوي, وإذا أرادت الحركة النقابية أن تخرج من أزمتها وتساهم في حل الأزمة الوطنية وحل أزمة عمالها، عليها أن تبدأ من ذاتها، وأن تعالج التشوهات الخطيرة التي تنخر بنيتها التنظيمية، ولعل أبرز مكامن الخلل يتجلى في الإطار التنظيمي لها وخاصة ما يتعلق ببنية التنظيم النقابي للإتحاد العمالي العام، وافتقاره الى توفر المثلث الذهبي كشرط أساسي لنجاح الحركة النقابية. وهذا المثلث هو حرية التنظيم وديمقراطيته وفعاليته، وبدون هذه الشروط يبقى الأمر معلقاً في الفضاء الى ما شاء الأولياء غير الصالحين.
وإذا أردنا أن نعدد أبرز مظاهر الخلل والتشوهات في جسم الحركة العمالية وجب علينا أولاً أن نلقي نظرة سريعة على البنية التنظيمية للإتحاد العمالي العام.
الإتحاد العمالي العام في لبنان
يعتبر الإتحاد العمالي العام في لبنان الممثل الشرعي للنقابات والإتحادات النقابية، وهو من الناحية التنظيمية أقرب الى الصيغة “الكونفيدرالية” التي تحتفظ فيها الإتحادات النقابية المكونة للإتحاد باستقلالها الذاتي، إنما تلتزم بموقف موحد يجري الإتفاق عليه ضمن هيئتين أساسيتين، هما مجلس المندوبين والمجلس التنفيذي.
ويتمثل كل إتحاد عضو في الإتحاد العمالي العام بأربعة مندوبين في مجلس المندوبين، وبمندوبين إثنين في المجلس التنفيذي، وذلك بشكل متساو لا علاقة له بحجم كل إتحاد ووزنه التمثيلي، وينتخب المجلس التنفيذي من بين أعضائه هيئة مكتب المجلس المؤلفة من 12 عضواً، وهي الهيئة الوحيدة المنتخبة من قبل الإتحاد.
هذه الصيغة الكونفيدرالية أدت الى تحويل هيئات الإتحاد العمالي العام الى مجرد ألعاب انتخابية تنظيمية شرعت أبواب التدخل السياسي وشجعت على تفريخ النقابات والإتحادات النقابية للسيطرة على قرار الإتحاد العمالي العام وتفريغه من محتواه ومن أهدافه الحقيقية كأداة تنظيمية جامعة تعمل على تحقيق مطالب العمال والحفاظ على مكتسباتهم وحقوقهم، الى أداة تتحكم بها الأحزاب والقوى السياسية والطائفية والسلطة السياسية في البلاد، وتحركها بناء على روزنامتها السياسية والإقتصادية، متجاهلة مطالب العمال وحقوقهم الأساسية.
هذا الواقع المؤلم أدى الى وجود أكثر من 600 نقابة وأكثر من 50 إتحاد نقابي حائزة بمجملها على تراخيص قانونية من وزارة العمل، والحصول على ترخيص لإنشاء النقابة هو شرط إلزامي وأساسي لقانونية وجود النقابة وممارسة عملها، وهو ما نص عليه قانون العمل اللبناني، مما أفقد العمال الحق في حرية إنشاء نقاباتهم (وهو الحق الذي أعطتهم إياه الإتفاقية الدولية رقم87 في شأن الحرية النقابية وكفالة حق التنظيم) وأعطى للسلطة السياسية سلطة إنشاء و حل النقابات مع ما يعني ذلك من هيمنة مطلقة على العمل النقابي.
كان لا بد من إيراد هذه المقدمة عن البنية التنظيمية للإتحاد العمالي العام بشكل خاص ولتركيبة الحركة النقابية بشكل عام لتحديد المعطيات اللاحقة وإبراز الأزمة البنيوية للعمل النقابي والتي تتلخص في المظاهر التالية:
1 – ضعف التمثيل والمشاركة:
تقدر نسبة المنتسبين الى جميع الإتحادات التي يتشكل منها الإتحاد العمالي العام 7.86 في المئة من العمال والأجراء الذين يحق لهم الإنتساب الى النقابات والذين قدر عددهم 745760 أجيراً، وإذا ما احتسب عدد المقترعين في عمليات الانتخاب التي تجريها النقابات لتقلص العدد الفعلي للمنتسبين الى ما دون ال 5 في المئة بعد عدم احتساب إزدواجية الانتساب الى أكثر من نقابة.
2 – تورم في راس الهرم القيادي وهزالة الجسم النقابي:
ترافق الإرتفاع في عدد الإتحادات النقابية الى إرتفاع في عدد أعضاء مجلس المندوبين في الإتحاد العمالي العام، كما أدى الى إرتفاع في عدد أعضاء المجلس التنفيذي. ويتساوى جميع هؤلاء الأعضاء بالحقوق التصويتية بمعزل عن حجم التمثيل الفعلي.
3 – تكاثر النقابات وتراجع النقابيين:
بالرغم من التكاثر في عدد النقابات الا أن نسبة المنتسبين اليها تضاءل بشكل كبير بالمقارنة مع عدد النقابات التي كانت قائمة ونسبة الإنتساب اليها.
4 – عدم عدالة التمثيل في الهيئات القيادية:
إن عدم إعتماد التمثيل النسبي للإتحادات الأعضاء في الإتحاد العمالي العام، أدى الى تفريخ المزيد من النقابات والإتحادات الهزيلة للسيطرة على مركز القرار في الإتحاد العمالي العام، بحيث استطاعت مجموعة إتحادات لا يتجاوز عدد المنتسبين اليها ال 15 في المئة من عدد المنتسبين الى الإتحادات النقابية التي يتشكل منها الإتحاد العمالي العام أن تسيطر على المجلس التنفيذي وعلى هيئة مكتب الإتحاد، بينما الإتحادات الباقية والتي تبلغ نسبة المنتسبين اليها ما يقارب ال 85 في المئة خارج دائرة القرار في الإتحاد.
5 – وجود جسم نقابي أساسي خارج الإطار التنظيمي للإتحاد العمالي العام:
يقدر عدد النقابات التي تعمل خارج الإطار التنظيمي للإتحاد العمالي العام ب 28 نقابة، وتضم هذه النقابات ما يقارب 34.41 في المئة من مجموع المنتسبين الى الإتحادات النقابية.
6 – وجود قياديين نقابيين غير ملتصقين بالهموم اليومية والمهنية للعمال:
إن نسبة من يصنفون في خانة العمال في قيادة الإتحاد العمالي العام لا تتجاوز ال 7.84 في المئة بينما الباقون هم من الموظفين وأصحاب رؤوس الأموال والذين لا يمكن مقارنة مداخيلهم مع مداخيل العمال.
ما العمل؟؟
إن هذا الواقع التي تعيشه الحركة النقابية في لبنان لا يتهدد وحدتها ووحدة عمالها فقط، بل هو يتهدد كيان الدولة برمته ويجعل من نظامه أكثر طائفية ومذهبية وفئوية، وفي كل مرة يطل على لبنان مشروع إقتصادي أو طائفي أو سياسي مشبوه كانت أولى ضحاياه الحركة النقابية والعمالية بما تمثله من حالة إجتماعية ووطنية جامعة، وما تمثله من عقبة أمام مشاريع الهيمنة والتفتيت، ولنا في المشروع الإقتصادي والسياسي للعام 1992 أكبر دليل على ذلك، ومن المفارقات العجيبة أن إحدى الأدوات الفاعلة في يد هذا المشروع ضد الحركة النقابية كانت أحزاب سياسية تدعي أنها أحزاب يسارية وتناضل من أجل العمال وتحقيق مطالبهم المعيشية والإجتماعية، ولكنها عندما تعاقبت على وزارة العمل تفننت في قهر العمال وفي التنكيل وشرذمة ومصادرة الحركة النقابية.
إن الخروج من نفق هذه الأزمة يكون في السعي الى ايجاد تنظيمات نقابية تقوم على صيغة تنظيمية مثلى، ولعل هذه الصيغة:
هي التي تتصف بحرية التنظيم وديمقراطيته وفعاليته.
هي التي تقوم على هيكلية تنظيمية تساعد على تحقيق الإدارة الجماعية للنقابة (مجالس تمثيلية، لجان فرعية…)
هي التي تعمل على استبعاد الإنتماء السياسي والطائفي والمذهبي والفئوي عن آلية إتخاذ القرارات.
هي التي تمارس ديمقراطية حقيقية شفافة.
هي التي لا ترضخ للضغوط والتدخلات والتأثيرات الخارجية على قراراتها.
هي التي تعمل على بلورة المطالب وتضع الخطط العملية والإستراتيجية لتنفيذها.
هي التي تسمح بتداول السلطة على مستوى الرئاسة وعضوية المجلس التنفيذي واللجان.
هي التي تعمل على تنسيب أكبر عدد ممكن من العمال في تنظيمها.
هي التي تعمل على رفع المستوى المادي والثقافي والإجتماعي والمهني لأعضائها.
هي التي تخلق اللجان وتفعّل عملها وتساهم في إقامة النشاطات الرياضية والإجتماعية والثقافية.
هي التي تُسخّر الإنتماءات السياسية والإجتماعية والطائفية لأعضائها في خدمة تحقيق أهداف النقابة، وليس العكس من ذلك.
هي التي تعمل على رفع مستوى الوعي النقابي بين أعضائها.
هي التي لا تورّط نفسها في إنشائية خطابية، تغرف من قاموس سحري يقوم على المبالغة، وعلى تقمص شخصية مستحيلة بعيدة عن الواقع، تنام على مجدٍ غابرٍ، وترفض الإنتقاد.
هي أن لا تكون نقابة مُطوَّعة للتعايش مع رغبات سلطة الفرد ومزاجيته.
ولعل أقصر طريق تسلكه النقابة لكسب معاركها هي أن توفر السند القانوني لمطالبها، وتطبق القانون في تحركاتها، وأن تستفيد من كافة النصوص القانونية المحلية والدولية، للوصول إلى مبتغاها، وتحقيق أهدافها السامية.
إن مواجهة الأزمات الوطنية للعمال، ومواجهة العولمة الإقتصادية وهيمنة الشركات الكبرى على إقتصاديات الشعوب والدول، لا يمكن مواجهته إلا بعولمة عمالية تتضافر قواها وجهودها ونضالاتها، برجالها ونسائها، من أجل تحقيق مطالب العمال للعيش في أوطان وبيئات آمنة محررة من الخوف والحاجة والفقر والجهل والتخلف والإستعباد.