أكرم السيسي يكتب: ظاهرة تفوق أبناء «الفقراء» بين المهانة والعناية!

قسم : أراء حره

ليست المرة الأولى التي نجد فيها متفوقين من أبناء «الفقراء» أو من الطبقات الاجتماعية دون المتوسطة، ففي عام 2017، حصلت الطالبة النجيبة مريم فتح الباب على الترتيب الأول فى الثانوية العامة، والمعروفة إعلاميًا بـ«مريم بنت حارس العقار»، والتي استدعاها السيد رئيس الجمهورية لتجلس بجواره، تكريما لها على تفوقها، فى الجلسة الافتتاحية في مؤتمر الشباب الذى انعقد في الإسكندرية في 24/7/2017.

وفى الدفعة الحالية 2020 من ماراثون الثانوية العامة، لعبت المصُادفة دورا كبيرا في إظهار ثلاثة طلاب حققوا تفوقا كبيرا في مسيراتهم العلمية، هكذا قال مصور صاحب المصادفة الأولى للطالب العبقرى إبراهيم عبدالناصر أو «بائع الفريسكا»: «القصة ربنا اللي عاوزها.. لقيت ولد منور، سألته عن اسمه ودراسته، وأول ما أخبرنى المجموع 99.6% قولتله لازم أصورك»، ومن هنا انتشرت قصة إبراهيم، وصورته وهو يبيع الفريسكا على أحد شواطئ الإسكندرية على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي أفصح فيها عن بياناته، وعن رغبته فى الالتحاق بكلية الطب!

ومن «بائع الفريسكا» إلى «بائعة الأحذية»، فبعد أيام قليلة من تداول قصة إبراهيم، تداول رواد الفيس بوك مقطع فيديو ثان لطالبة بالثانوية العامة أثناء مساعدتها لوالدتها فى بيع الأحذية البلاستيكية، في سوق شعبي بمركز شبراخيت في البحيرة، فتنكشف قصة كفاح أخرى للطالبة المميّزة آية طه حسين، الحاصلة على مجموع 99.5%، والتي تعانى من ظروف قاسية لم تمنعها من التفوق لتحقيق حلم أسرتها، وأعلنت عن رغبتها بالالتحاق بكلية الطب، وبعد أن عرضت آية معاناتها، ومعاناة أسرتها، ومرض والدها المقعد نتيجة عملية فى المخ لاستئصال ورم سرطاني، طالبت بتخفيض المصروفات المالية لكلية الطب حتى تتمكن من استكمال دراستها!

وعلى التوالي، بعد أن أعلن الإعلام عن الحالتين السابقتين، ظهرت لنا الطالبة ياسمين يوسف، الحاصلة أيضا على 99.5%، التي قالت عن نفسها: «رغم ما عانيته فى طريق كفاحي في ظل الظروف الصعبة التي عشت فيها مع أب مريض، وأم تبيع البلاستيك لتنفق عليّ أنا وأبى وأخواتي البنات، رضاني ربي بدخولي كلية الطب جامعة الإسكندرية، ولكن للأسف لم تكتمل الفرحة لعدم استطاعتي تحمل تكاليف باقي الطريق الجامعي»، بهذه الكلمات استغاثت طالبة شبراخيت المُجتهدة ياسمين يوسف بأصحاب القلوب الرحيمة!

كانت نتيجة عرض هذه الحالات الثلاث أن استجاب السيد وزير التعليم العالي لحالة إبراهيم عبدالناصر، فأمر بإعطائه منحة كاملة لكلية الطب جامعة الإسكندرية، واستجاب السيد وزير الأوقاف لمناشدة الطالبة آية طه حسين، فكلف وكيل وزارة الأوقاف بالإسكندرية باصطحاب الطالبة لمقابلة رئيس جامعة الإسكندرية للتنسيق معه لإلحاق الطالبة بكلية الطب، وتقديم الدعم الكامل لها من الموارد الذاتية للوزارة، كما توسطت جريدة «الشروق» لدى رئيس جامعة الإسكندرية، الذى رحب بمناشدة الطالبة ياسمين يوسف، ووعد بأنه سوف يتم دخول طلبها إلى مجلس الجامعة المقبل للموافقة النهائية على منحها منحة للدراسة فى كلية الطب، والإقامة في المدينة الجامعية مجانا.

***

كان هذا عَرْضا لمسلسل سير ذاتية لثلاثة طلاب من أفضل ما أنجبت مصر، اعتبرت قصصهم سبقا إعلاميا، كشف الإعلام عن حالاتهم الاجتماعية القاسية من فقر ومرض، إلا أن ما حدث يُعد ظاهرة جديرة بالدراسة والتحليل، فمدلولاتها كثيرة، ومن أهمها:

أولا: هؤلاء الطلاب كان لهم نصيب كبير من الحظ، كما عبر بذلك الدكتور حاتم خاطر، مصور الفيديو الأول: «إن الله أراد لهذا الطالب الخير، وربنا عارف إن البلد دي فيها رجالة وشباب زىي الورد هم اللي حيبنوا المستقبل ومحتاجة الناس تشوفها»، وهذا معناه أنه لولا الإلهام الذى نزل على الدكتور حاتم ما عرف أحد شيئا عن الطالب المتفوق الذى ربما لم يستطع استكمال دراسته، وبهذا كانت ستخسر مصر موهبة علمية يمكن أن تحقق لنفسها وللوطن الكثير!

ونفس الشيء ينطبق على الحالتين الأُخريين، والسؤال الذى يجب طرحه: كم من مواهب أخرى، وحالات مماثلة (في الماضي والحاضر) لم يُصادفها الحظ، وضاع مستقبلها، وفَقَد أو سيَفِقد الوطن مواهبهم؟، وهل ستعتمد الدولة مُستقبلا على مجهودات الدكتور حاتم خاطر للاهتمام بهذه الكنوز الشابة؟، مُكتفية بما أعرب عنه فى «أمله برؤية نماذج مشرفة أخرى مثل إبراهيم، وأنه ينشط في العمل التنموي منذ عدة سنوات»!

ثانيا: كشفت هذه الحملة الإعلامية عن عنصرية بغيضة فى نفوس كثير من الناس فى مجتمعنا، تلخصها المقولة المصرية الشهيرة: «إنت عارف إنت بتكلم مين؟»؛ عنصرية تتنافى تماما مع دعواتنا لمفهوم «المواطنة»، خاصة وأن الذاكرة مازالت تحمل كثيرا من الأحداث المؤلمة التي تتعارض كلية مع «المواطنة»، فلم ولن ننسى واقعة الشاب المتميز الذى انتحر لأنه لم يُقبل للعمل في السلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية، رغم أنه كان الأول في المسابقة التي نظمتها الوزارة بنفسها، لأنه من وسط اجتماعي لا يليق بالوزارة السيادية، وقبلت من هم أقل منه كفاءة! ولم ولن ننسى تصريح وزير عدل أسبق صرّح بأنه لا يقبل انتساب «ابن الزبال» المتفوق للهيئة القضائية الموقرة لنفس السبب السابق!

وبالعودة للأبطال الثلاثة ــ موضوع مقالنا ــ فإنني أرى (وأتمنى أن أكون مُخطِئًا) أن الصفات التي نسبها الإعلام لأصحاب الحالات السابقة سوف تضُر بالقطع بهم مستقبلا، إن لم تكن قد أضرت بالفعل، فأصبحت هذه النماذج المُشرفة مقرونة بصفات فيها مهانة: «بنت حارس العقار»، و«بنت بائعة البلاستك»، و«بائع الفريسكا»، و«بائعة الشباشب»! مع العلم بأن كل عمل شريف هو مُقدس، فبالأصالة عن نفسى، وعن الكثيرين الذين يؤيدون رأييِّ، أُقدم اعتذارا كبيرا لهذه النماذج العظيمة عن هذه الصفات التى أطلقت عليهم من الإعلام لتُعلِن عنهم!

***

فقد كان يجب على الإعلام أن يكون أكثر حرفية للإعلان عن هذه الحالات، وأكثر رحمة من ظروف الزمن القاسية، لمساعدتهم بشكل إنساني محترم، ولإلقاء الضوء عليهم بصورة مُشرفة وراقية، تشجعهم وتقدرهم، وتضعهم في قمة السلم الاجتماعي، لتحافظ على كرامتهم، وكرامة أسرهم، بدلا من دفعهم بالاسترسال للحديث عن ظروفهم الاجتماعية، والمادية بشيء ظهرت فيه مهانة للنفس لنفائس نادرة من شباب مصر المكافحين والمجتهدين!

ثالثا: يجب على الدولة أن تتنبه لظاهرة التفوق الحميدة لهذه الطبقة (المتناقضة تماما مع أمثال أبناء «الفورمنت»، وأبناء «البورتوهات» بالساحل الشمالي، والعين السخنة، وبنات الفيديوهات الإباحية…)، فتُنشئ جهازا للبحث عن هذه الحالات النموذجية، في المدارس والجامعات، حتى لا نفقد مواهبها وجديتها، وكذلك متابعتها حتى تخرجهم من الجامعات التي لا نرى من ضمن أعضائها أمثال هؤلاء العباقرة المجتهدين، لأن المناصب الجامعية محجوزة، في غالب الأحيان، لأبناء الأساتذة، خاصة في كليات الطب، ولا في المناصب المرموقة سواء في الوزارات السيادية أو الهيئات القضائية!

ويكون لهذا الجهاز صندوق تابع لوزارتي التربية والتعليم، والتعليم العالي لمتابعتهم، تمول ميزانيته من الدولة، ومن رجال الأعمال أصحاب الحس الوطني، ومن بعض المؤسسات الكبيرة كالبنوك وغيرها، بدلا من أن تنهال المنح والهدايا والعطايا على فرد واحد، مثلما حدث لإبراهيم الذى حصل على منح بمئات الآلاف من الجنيهات! فتوزع هذه المكافئات المالية بشكل منظم على عدد كبير من هذه الفئة المجتهدة والمتميِّزة دون أن يشعر أحد منهم بالامتنان لشخص، ولكن يكون امتنانه لوطنه فقط.

هكذا تُبنى الأوطان بالعلم وبالعدل وبالاجتهاد وبالمساواة بين الناس، وصدق قول رسول الله في خطبة الوداع: «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى».

الكاتب أستاذ الأدب واللغويات بقسم اللغة الفرنسية بجامعة الملك سعود بالرياض

نقلا عن “الشروق” المصرية

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *