«القانون كخيط العنكبوت يقع فيه الضعفاء، ويعصف به الأقوياء». كانت هذه مقولة الراحل طه سعد عثمان – النقابي المعروف في شبرا الخيمة في الأربعينيات والخمسينيات، وهي الفترة التي شهدت تأسيس نقابات قوية، والتي أتت حركة الضباط في ١٩٥٢ وأممتها. قال عثمان جملته تلك لعدد من العمال الذين كانوا يجتمعون في اللجان التي يؤسسونها عوضاً عن النقابات التي كانت مؤممة لمصلحة النظام، وخصوصاً مع بداية الألفية، ومن هذه اللجان: اللجنة التنسيقية للحقوق والحريات النقابية، ولجنة التضامن مع عمال شبرا الخيمة، وغيرهما. وكان عم طه – كما يسمى – يردد هذه المقولة عندما كان العمال يطرحون مسألة ما هو قانوني وما هو غير قانوني، سواء من مطالبهم، أو من الطرق التي يلجأون إليها من أجل الحصول على مطالبهم تلك.
انطلاقاً من مقولة عم طه، ومن إيماننا الكامل بأنّ القانون لا يصنع واقعاً، وأنّ القوانين تصدر معبرة عن مصالح الطبقة المسيطرة، نناقش قانون النقابات العمالية، الذي بدأ الحديث عنه عقب إزاحة مبارك عن سدة الحكم، بتسميته قانون الحريات النقابية، ثم عدنا الآن إلى الاسم القديم ما قبل الثورة، أي قانون النقابات العمالية. فهل حقاً سيستطيع كمال أبو عيطة إصدار قانون يعبّر عن طموحات العمال ويساعدهم في بناء نقابات حقيقية تعبّر عنهم وتدافع عن حقوقهم، ويستطيعون عزلها إن لم تقم بدورها تجاه مطالبهم، أم لا؟ ولماذا يكتسب هذا القانون هذه الأهمية؟
لما كان التنظيم هو المسألة الفارقة في ثورة الشعب المصري التي مرت بمرحلة المخاض لأكثر من عشرة سنوات، وبدأت أولى مراحلها في ٢٥ يناير٢٠١١، وما زالت مستمرة، فإنّ الشعب المصري الذي خرج بالملايين واعتصم لمدة ثمانية عشر يوماً حتى إزاحة مبارك، جمعه هدف واحد هو إزاحة الرئيس، ولكنه بسبب عدم وجود تنظيمات، سواء في شكل أحزاب أو نقابات أو أي أشكال تنظيمية أخرى تسمح بالاتفاق على البديل والصمود من أجل فرضه، اضطر إلى قبول المجلس العسكري في سدة الحكم بديلاً من مبارك. هكذا استكمل المجلس سياسات مبارك نفسها دون تغيير، وحاول بكل الطرق إجهاض وكتم أي مبادرة أو أي صوت يطالب باستكمال الثورة حتى تحقيق شعارها «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية».
في ٣٠ يونيو/حزيران خرجت الملايين التي قدرت بما بين ١٧ مليوناً و٣٠ مليوناً، إلى شوارع القاهرة، وفي ميادين الثورة في المحافظات. خرج الناس من القرى هذه المرة ليقولوا لا لحكم الإخوان، ولكن بسبب عدم تنظيمهم أتت القوى اليمينية، ومنها القوى المعادية للثورة والتي تحارب من أجل إيقاف مسيرتها من الجيش والشرطة وفلول النظام السابق، ومن الليبراليين، ليتصدروا هم المشهد، وليستولوا على سدة الحكم، سواء بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر.
ولما كان التنظيم مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى الشعب المصري، وشرطاً ضرورياً من أجل استكمال ثورته ونجاحها في تحقيق أهدافها، فإن تنظيم العمال يعتبر في القلب من هذه العملية. وكانت مسألة النقابات المستقلة التي بدأت إرهاصاتها قبل ٢٥ يناير٢٠١١، قد ظهرت من خلال إعلان العمال عبر إضراباتهم واعتصاماتهم رفضهم للتنظيم النقابي الأصفر التابع للنظام والمتمثل في اتحاد عمال مصر، وذلك من خلال الإدانة الواضحة له؛ لأنه لا يقف بجوار العمال ومطالبهم. ففي المعارك الكبرى، كان دائماً يختار خندق النظام الحاكم ضد العمال ومصلحتهم، ومن المعارك الفاضحة للاتحاد اشتراكه في التخطيط لموقعة الجمل ضد المعتصمين (ضمنهم العمال) في التحرير والعازمين على إزاحة مبارك ونظامه وتنفيذها. وكان العمال في معظم معاركهم يرفضون أن يتفاوض نقابيو الاتحاد الأصفر باسمهم، ويصرون على أن يختاروا هم المتحدثين والمفاوضين باسمهم بعيداً عن الاتحاد ورجاله. وقد خطا العمال خطوة أخرى في شأن التنظيم، فقد تأسست أربع نقابات قبل ٢٥ يناير، ورفضت وزارة القوى العاملة وقتها قبول أوراق إيداعها. وقد أخذت مسألة حق التنظيم دفعة قوية بعد إزاحة مبارك عندما فتح الباب للعمال لتنظيم أنفسهم بحرية والسماح بوضع أوراق التأسيس لنقاباتهم المستقلة في مديريات القوى العاملة والهجرة.
إلا أنّ من يحكم اليوم يشنّ حرباً شرسة على العمال وقياداتهم الطبيعية، ونقاباتهم المستقلة، وبالذات المناضلة منها، تارة من خلال حملة التشويه الإعلامي التي تحدثت عن فئوية مطالب العمال، وتارة أخرى من خلال تجريم الاعتصامات والإضرابات بإصدار قوانين جديدة لذلك، وأخيراً استكمال حملات التعسف ضد العمال التي كانت أيام مبارك، واستمرت بعد إزاحته. فقد ازداد الفصل التعسفي، وكذلك القبض على العمال ومحاكمتهم بتهمة الإضراب، التي أصبحت مسألة تستعمل كثيراً لكسر إرادة العمال. هذا بالإضافة إلى أشكال التعسف الأخرى مثل الإيقاف عن العمل أو الحسم من الراتب أو النقل التعسفي، أو حرمان الحقوق في الترقيات.
وقد استمر المجلس العسكري ومحمد مرسي في السير في سياسات مبارك نفسها التي ثار الشعب المصري عليها، فلم نصل إلى وضع حدين أدنى وأقصى حقيقيين للأجور، ولم يُعدَّل قانون العمل، ولم تُثبَّت كل العمالة المؤقتة، إلا من استمر منها في الاحتجاج، فأجبر الحكومة على تعيينه. كذلك لم يصدر قانون الحريات النقابية، بل صدرت قوانين لتجريم الاعتصام والإضراب والتظاهر.
ولما كان العمال في مرحلة انتقالية بين الدفاع، من طريق الاعتصام والإضراب والوقفات الاحتجاجية، وبين الهجوم من أجل مكتسبات جديدة، بقوا يطالبون بالحدّ الأدنى والأقصى، ولكنهم لا يستطيعون فرضه بحركتهم معاً. كذلك طالبوا بقانون لتقنين وضع نقاباتهم، وللتخفيف من التعسف الذي يقع عليهم، وخصوصاً أنهم لا يستطيعون إجبار الحكومات المتتابعة على إصداره.
أكثر من ذلك، بقيت الحركة العمالية رهينة قوة قوى الثورة أو ضعفها، وأصبح انتصار الثورة المضادة في احتلال مواقع جديدة على حساب قوى الثورة يؤثر مباشرة على العمال والطبقة العاملة المصرية، وهذا ما سيتضح من خلال عرض المحطات التي مرّ بها قانون الحريات النقابية.
قانون الحريات النقابية: محطات ومواقف
كانت المحطة الأولى في آذار / مارس ٢٠١١ عندما قررت منظمة العمل الدولية – في تحية للثورة المصرية –
رفع اسم مصر عمّا يسمى القائمة السوداء. لكن في الحقيقة، إن التعهد الذي تقدمت به الحكومة المصرية وقتها، أي حكومة عصام شرف، كان هزيلاً. فقد اقتصر على قرار من وزير القوى العاملة والهجرة وقتها د. أحمد حسن البرعي، بما سمي إعلان الحريات النقابية، الذي سمح بإيداع أوراق النقابات، مع وعد من الحكومة المصرية بإنجاز قانون الحريات النقابية ولكن من خلال حوار اجتماعي تشارك فيه كل الأطراف. وجرى التوصل إلى صيغة نهائية لمشروع القانون نتيجة التوافق بين هذه الأطراف، ونشر في الأهرام بتاريخ ١ أيلول / سبتمبر ٢٠١١، وهو المشروع الذي وافق عليه مجلس الوزراء وقتها، ورفض إصداره المجلس العسكري.
وعلى الرغم من أنّ هذا القانون كان قاصراً في بعض جوانبه، مثل العقوبات على أصحاب الأعمال، ويفرض شروطاً تعجيزية على تكوين الاتحادات، أو في عدم احتواء الإعفاءات والمميزات التي تقدم للنقابات، إلا أنّه كان متوازناً يرسي دعائم الحق في التنظيم على أرض الواقع، لأنه كان يسمح للعمال بتشكيل نقاباتهم بحرية دون تدخل من أحد، سواء أصحاب الأعمال أو الحكومة، أو حتى الأحزاب والمؤسسات. ويمكن أيضاً اعتبار القانون اللبنة الأولى في بناء نقابات قاعدية، ترتبط بقواعدها العمالية وتدافع عن حقوقها، وتعمل على تنفيذ مطالبها، وعلى تحسين أوضاع العمال على كل المستويات، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية. كانت ستنشأ نقابات ديمقراطية يدخلها العمال بإرادتهم الكاملة، وينتخبون مجالس إدارتها من دون تدخل من أحد ويستطيعون عزلها عندما تنحرف عن أهداف النقابة التي وضعتها جمعيتها العمومية. وبالتالي كان من المفترض أن تكون نقابات قوية، تستمد قوتها من ثقة عمالها فيها، والعمل معاً بداخلها من أجل تحقيق المطالب وانتزاع الحقوق. نقابات تعمل من أجل أن يكون العمال جزءاً من صناعة القرار في مصر، وليس فقط العمل على رفع مطالب العمال لدى مؤسسات اتخاذ القرار في البلاد.
المحطة الثانية كانت عندما أصبح الإخوان المسلمون أغلبية في مجلس الشعب، فأقرت اللجنة التشريعية في مجلس الشعب، قبل حله، مشروع قانون للنقابات (مشروع قانون حزب الحرية العدالة)، ولم تأخذ شيئاً من ثلاثة مشاريع أخرى تقدم بها النواب في المجلس وقتها، كمال أبو عيطة، أبو العز الحريري وعمرو حمزاوي، وكانت هذه المشاريع عبارة عن مشروع قانون الحريات النقابية الذي جرى التوصل إليه في عهد البرعي.
وبالنظر في المشروع الذي أقرته اللجنة، يظهر وكأنه قد أقر مبدأ الحرية النقابية وحق التنظيم، الذي انتزعه العمال المصريون بعد ثورة ٢٥ يناير على أرض الواقع. فقد تعدى وقتها عدد النقابات التي أسسها العمال خلال عام واحد أكثر من ٦٠٠ نقابة، أغلبها نقابات مناضلة وقاعدية، عملت كي ينال أعضاؤها حقوقهم المنهوبة منذ سنوات. لكن بقراءته بتأنٍّ، تكتشف أن جوهر هذا المشروع كان تفريغاً لعمل النقابات من كل ما يجعلها تدخل فى مرحلة جديدة. فقد حرم هذا المشروع العديد من الفئات العمالية، كالعاملين المدنيين في الشرطة والجيش والمناطق الاستثمارية وغيرهم، حق تأسيس النقابات، وأعادنا إلى الشكل الهرمي الذي تتركز فيه الصلاحيات في رأس الهرم، وتنتزع من النقابات القاعدية المرتبطة بالعمال كل الصلاحيات. لقد عمل المشروع على فصل العمال عن السياسة وغيرها.
ثم تأتي المرحلة الثالثة منذ انتخاب محمد مرسي رئيسًا للجمهورية وحتى ٣٠ يونيو، وهي المرحلة التي حاول فيها نظام الحكم السير في اتجاهين بخصوص العمال والنقابات. فمن ناحية، حاول إيقاف النقابات المستقلة التي تتأسس يومياً من خلال وضع معوّقات من قبل وزارة القوى العاملة (بعد تعيين الإخواني خالد الأزهري على رأس هذه الوزارة)، ووضع شروط لتسلّم الأوراق لم تكن موجودة من قبل. وفي الوقت نفسه، استمر مسار تكسير عظام النقابات والنقابيين والقيادات الطبيعية للعمال في المواقع التي ليس فيها نقابات، وهي السياسة التي بدأت في عهد المجلس العسكري، وسبقه إليها، وإن بدرجة أقل، نظام مبارك.
وكان الاتجاه الثاني هو العمل على تقوية وجود اتحاد عمال مصر، وحمايته من السقوط، وخصوصاً في كل مرة يقترب فيها موعد انتهاء ولايته الممدة، وأيضاً السيطرة على هذا الاتحاد وجعله تابعاً للنظام بقيادة محمد مرسي كما كان تابعاً لسابقيه. وفي هذا الإطار يمكن فهم إصدار مرسي القانون ٩٧ لعام ٢٠١٢ عقب الإعلان الدستوري الذي سبّب أزمة كبرى داخل المجتمع، التي أعقبها إصدار الدستور بالشكل الهزلي الذي حدث.
أخيراً، مع اقتراب انتهاء التمديد الأخير لاتحاد العمال، ومع اقتراب موعد انعقاد الاجتماع السنوي لمنظمة العمل الدولية في حزيران / يونيو ٢٠١٣، وجدنا وزير القوى العاملة يخرج علينا بجولة جديدة من الحوار حول قانون النقابات. ولكنه هذه المرة قدم مقترحاً من الوزارة حول قانون للنقابات، أسوأ بكثير من كل المشاريع السابق ذكرها؛ إذ بالإضافة إلى زيادة القيود والتدخلات في شؤون النقابات، سواء من قبل وزارة القوى العاملة والهجرة أو من قبل المستويات الأعلى في الاتحادات، تضمن مادة لها علاقة بحل النقابة التي تدعو أو تحبذ على أو تشجع الإضراب، وكأنّه بهذا الشكل يحكم على كل النقابات لكي تستمر بالخضوع التام، وعدم ممارسة الإضراب، وبالتالي عدم الدفاع عن أي حق من حقوق العمال.
المرحلة الرابعة بدأت منذ تولي كمال أبو عيطة وزارة القوى العاملة، الذي سارع إلى عقد اجتماع لمناقشة قانون النقابات، لكن للأسف الشديد كانت أول القصيدة كفراً، فبدلاً من أن يعمل على إصدار قانون الحريات الذي طالما نادى به، وتقدم به لمجلس الشعب عندما كان عضواً فيه، وجدناه يكمل طريق خالد الأزهري من حيث طرحه لآخر نسخة من قانون هذا الأخير، وبطريقة التضييق نفسها في الدعوة للمناقشة بعيداً عن أعين العمال والنقابات إلا عدداً قليلاً من المختارين من الاتحادات المختلفة. وقانون أبو عيطة يحوي تدخلاً في شؤون النقابات وفرض شروط تعجيزية على الوحدة، واستبعاد ممثلي العمال الحقيقيين من الحماية، وعزل العمال عن السياسة، ومحاولة شراء البيروقراطية النقابية، سواء القديمة أو الجديدة. هذه كلها إشكاليات تفرغ مسألة النقابات من مضمونها، تماماً كما كان يفعل الإخوان المسلمون بأشكال مختلفة.
وتستمر حتى الآن عملية التعسف وتكسير العظام في ظل الفراغ القانوني بالنسبة إلى النقابات المستقلة. كذلك إن عمال مصر مستمرون رغم كل شيء في احتجاجاتهم المتفرقة التي ما زالت لا تصبّ في مسار يؤدي إلى تغيير وضعها ليكون مؤثراً في موازين القوى بين الثورة والثورة المضادة، وخصوصاً مع عدم اهتمام معظم الأحزاب والقوى السياسية بمعركة العمال وحقهم في التنظيم كحق ديمقراطي أصيل، يجري تصديرها كقضية أساسية تستوجب النضال من أجل إصدار قانون الحريات النقابية ووقف نزف الفصل والحبس الذي يتعرض له العمال.
وما سيحدث في موضوع قانون الحريات النقابية سيكون المرآة التي يمكننا أن نعرف من خلالها إذا كنا نسير في طريق الديمقراطية القاعدية، من خلال قوانين تسمح بشكل حقيقي بالتنظيم بعيداً عن تدخل الدولة وأجهزتها المختلفة، أو سنكتشف أننا نسير في طريق محاربة الأشكال القاعدية للتنظيم، وفرض المزيد من الشروط التي تشوّه النقابات التي ناضل العمال من أجل تأسيسها، وتجعلها جزءاً من البيروقراطية النقابية الفاسدة التي سبق أن رفضها العمال.
بقلم : فاطمة رمضان
نقلا عن بدايات