بعد أيام قليلة من إصدار منظمة هيومن رايتس ووتش لتقرير حقوقي ينتقد فيه بعض الانتهاكات لحقوق الإنسان في مصر ، أصدرت الحكومة المصرية ما أسمته بـ ” الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان ” ، و التي تبين نقاط القوة و القصور في حقوق الإنسان بمصر – كما تراها الدولة – ، و تبين أيضاً رؤيتها لما يجب أن يتم لمواجهة التحديات ( القصور ) الذي يؤثر على الملف الحقوقي في مصر ، و ذكرت أنها تستند في رؤيتها إلى أهداف التنمية المستدامة 2030 .
و قد أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، انطلاق “الإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان” ، من داخل العاصمة الإدارية الجديدة، وفي حفل دعي إليه العديد من الشخصيات الدبلوماسية، المصرية والدولية، بجانب ممثلي عدد من الجهات الرسمية وبعض الشخصيات العامة، تناقلته العديد من وسائل الإعلام على الهواء مباشرة، و كشف النقاب عن تلك الإستراتيجية التي تهدف إلى النهوض بحقوق الإنسان في مصر.
و كان لافتاً في أثناء الحفل الكلمة التي ألقاها الرئيس السيسي عن حرية المعتقد و الذي طالما تعطش له العديد من المصريين ، حيث قال : ” أحترم عدم الاعتقاد ولو واحد قالي أنا مش على أي دين في الدنيا أنت حر” ، معلناً عن حقبة جديدة من الحريات الدينية التي نأمل أن نراها واقعاً حقيقياً في القوانين و التي يمكن أن تصبح أسهل تطبيقاً إذا تم إلغاء بند الديانة في بطاقات الرقم القومي مع إلغاء عقوبة ازدراء الأديان ، و تسجيل جميع عقود الزواج بشكل مدني حلاً لمشكلة الزواج من أصحاب ديانات مختلفة مثل الزواج المختلط المتبع في لبنان و الذي اخرج لبنان من الطائفية إلى المدنية .
فوجيء المصريون بأنه قد أعقب ذلك كله ، ما أعلنه موقع بوليتيكو (Politico) عن أنباء تشير إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن قررت حجب جزء من المساعدات العسكرية المشروطة لمصر، بسبب مخاوف بشأن وضع حقوق الإنسان فيها، كما ارتأت فرض قيود على استخدام الجزء الباقي من تلك الأموال ، و ذكر بأن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن عازم على اتخاذ هذه الخطوة التي لم يسبق لها مثيل، وهي الامتناع عن استخدام بند يخوله إرسال المساعدات إلى مصر كاملة، متجاوزا اعتراضات الكونغرس ، و قال بأن هذا الحجب سيبقى مستمراً إلى أن تستوفي الحكومة المصرية شروطا غير محددة تتعلق بحقوق الإنسان ، مما يعني بأن الإدارة الأمريكية لم تستهويها الاستراتيجية الجديدة لحقوق الإنسان في مصر ، و مما يدعونا للتساؤل عن الأسباب .
بالرغم من كون الاجتماعات التي سبقت الاستراتيجية الوطنية قد استغرقت أكثر من 20 شهرًا بين اللجنة الدائمة العليا لحقوق الإنسان ، ومؤسسات الدولة من برلمان وبعض كيانات المجتمع المدني إلا أن الاستراتيجية تفتقد إلى عناصر عديدة منها :
– تفتقد للواقعية
” لا يمكنك أن تملأ غرفة ما بالأوساخ ثم تكتب لافتة عن أهمية النظافة في غرفتك ” ،إذا فعلت ذلك فإن اول من سيرى هذه اللافتة سيواجهك بالسؤال ” هل أنت جاد ؟ ” ، فمن يستطيع أن يمنع عقله عن تمرير شريط من الانتهاك الحقوقي لدى قراءته للاستراتيجية و بنودها التي وضعت العديد من النصوص القانونية في خانة ” نقاط القوة ” في الحين انها قوانين غير مفعلة حيث شهدت مصر تراجعاً هائلاً في المجال الحقوقي بالسنوات الاخيرة ، وصل إلى حد أن أصدرت 31 دولة – في مارس الماضي – بيانًا دعت فيه القاهرة إلى رفع القيود عن الحريات والتوقف عن “اللجوء إلى قوانين مكافحة الإرهاب لتكميم أفواه المعارضين والمدافعين عن حقوق الإنسان والصحافيين وإبقاء المنتقدين في الحبس الاحتياطي إلى أجل غير مسمى” ، كما قال مدير “مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان”، “بهي الدين حسن” سابقاً بأن “الناس في مصر عاشوا في الماضي في ظل حكومات مستبدة، لكن المستويات الحالية من الاستبداد غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث و أن العواقب ربما تكون مرعبة على حقوق الإنسان وعلى الاستقرار الإقليمي”.
وفي أغسطس من العام الماضي حُكم على “بهي الدين حسن” بالسجن 15 عاما غيابيا أمام “دائرة إرهاب” في مصر، جراء عمله الخاص بالدفاع عن حقوق الإنسان.
لقد ذكرت ” الاستراتيجية ” على سبيل المثال حرية التعبير ، و كون أن المشرعين يرون أهمية التعبير هامة و يوثقونها بهذه الاستراجية فهذا يعني منطقياً بأنهم – كمشرعين – خاضوا معارك قانونية سابقة في هذا المجال فلماذا نرى بأن هناك عشرات المواقع المحجوبة لصحف وجمعيات وكيانات حقوقية وسياسية، هذا بخلاف سجناء الرأي من الصحفيين والمفكرين والأدباء، إضافة إلى التسبب بإغلاق العديد من مكاتب المنظمات الحقوقية ، و كذلك تضييق الخناق على أنشطة الأحزاب السياسية وملاحقة كل المعارضين ، فكيف استيقظ – المشرعون و صناع القرار – ما بين ليلة و ضحاها و قرروا بأن يغردوا خارج السرب الذي نظموه بأنفسهم و أن يعلنوا عن واقع حقوقي زاهر بعد أن أصبح المواطن العادي يغلق صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي على أصدقائه و حسب ، خوفاً من أن تتطاله القبضة الأمنية .
و لذلك فإن العديد من الجمعيات الحقوقية قد ردت على الاستراتيجية فور صدورها ببيان تطالب فيه بتنفيذ 7 خطوات أساسية كبداية فاعلة على أرض الواقع في المجال الحقوقي .
– تفتقد للشمولية
اشتملت ” الاستراتيجية ” في المحور الثالث على خمس فئات مهمشة و التي تواجه حقوقياً تحديات أكبر من غيرها و هي : [ حقوق المرأة ، حقوق الطفل ، حقوق الأشخاص ذوي الإحتياجات الخاصة ، حقوق الشباب ، حقوق كبار السن ] ، بيد أن ” الاستراتيجية ” لم تتحدث عن رغبتها في تغيير أي شيء يتعلق بحقوق اللاجئين في مصر ، و لم تعرب عن رغبتها في تغيير أي شيء فيما يتعلق بالملف الحقوقي للأشخاص المصابين بالأمراض النفسية و العقلية ، و لم يرد بالاستراتيجية أي تغيير في سياساتها في التعامل – مستقبلاً – مع العابرين جنسياً الذين لا زالوا لا يستطيعون تغيير هوياتهم الجنسية في بطاقة الرقم القومي ، و لم تذكر الوثيقة أيضاً المثليين الذين لازال القانون المصري يجرم ميولهم الجنسية ، و بالرغم من أن ” الوثيقة ” تحدثت عن العمال في المحور الثاني الذي تحدث عن الحق في العمل ، إلا أنها لم تذكر ” العمال ” في المحور الثالث الذي ركز على الفئات المهمشة و التي تحتاج دعماً حقوقياً أكثر مما سواها .
– تفتقد للإلزامية
و المحزن في هذه الاستراتيجية ليس فقط أنها تفتقد للشمولية ، و لكن في كونها مجرد مباديء استرشادية و ليس مجموعة من القوانين التي تطبق على أرض الواقع ، فالاستراتيجية ذكرت أن من أهدافها المساهمة [ في إيجاد نهج شامل لتنفيذ كافة تلك الالتزامات ] – تقصد بها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان – حيث وقعت مصر على 8 اتفاقيات دولية حقوقية بالإضافة إلى الاتفاقيات الإقليمية .
و الجدير بالذكر أن القانون المصري لازال ينص على قوانين تتنافى مع المواثيق الدولية بالرغم من أن الدستور المصري ينص على : [ تلتزم الدولة بالاتفاقيات و العهود و المواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي تصدق عليها مصر ، و تصبح لها قوة القانون بعد نشرها ] ، بل إن بعض نصوص الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها مصر يتنافى مع اتفاقيات أخرى إقليمية و أيضاً وقعت عليها الدولة المصرية ، و إذا كانت ” الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان ” تلقي ولو قليلاُ من الضوء على ذلك الخلل فإننا نثمنها و نشد عليها إلا أننا ننوه أن الذي نراه في الدول المتقدمة ، أن ” الاستراتيجيات الاسترشادية ” تبقى متداولة بين صناع القرار حتى تصل إلى مرحلة ( القوانين ) فيتم تصديرها من بعد ذلك -إعلامياً – للشعب ، أما أن يصدر المصنعون ” منتجاً قبل اكتماله في خط الإنتاج بالمصنع ” فهذا غير مقبول ،إلا إذا كان هذا التصدير مرفق بمسابقة – على حد المثال – لوضع النموذج النهائي الأفضل من قِبل عموم الشعب ، فإذا كان الأمر كذلك يصبح حينها أمراً مقبولاً و محفزاً للمزيد من الإبداع و العمل الفردي و الجماعي في سبيل تحقيق الأهداف المنشودة .
– تفتقد للإبداع
العديد العديد من ” النتائج المستهدفة ” التي وضعتها ” الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان ” لا تخرج من الصندوق و لا تبدع في إيجاد نظام بديل بدلاً من تعديلات طفيفة على نظام يتسم بالخلل في أساساته و تقنن الخطأ بدلاً من استبداله بالصواب ، و نذكر على سبيل المثال النتائج المستهدفة في المجال الصحي ما نصه : [ استكمال تطبيق نظام التأمين الصحي الشامل في كافة المحافظات ] ، و هذا البند يصلح للحديث عن ما تحتاج تنفيذه هذا الشهر أو هذا العام ، أما أن نتحدث عن استراتيجية ستصيغ ديباجتها الوجه الحقوقي لمصر بعد خمس أو تسع سنوات ، فإننا قطعاً بحاجة إلى التخلي عن ( الأفكار التقليدية ) و النظر إلى أن تكون الخدمات الصحية مجانية للجميع و أن يشمل هذا النظام جميع الأطباء الذي يعملون تحت سلطة الدولة و يتلقون منها رواتبهم ، حرصاً على منع الاستغلال الاستثماري في المجال الصحي لأن تدهور صحة الأفراد و تركهم بدون خدمة طبية قد تكون حكماً بالإعدام.
– تفتقد لمواكبة الدول المتقدمة في النواحي الحقوقية
ماذا يمكن أن يحدث في حال تم تطبيق قانون الأسرة في السويد في مصر غير أن الاسرة المصرية ستنعم بالمزيد من الأمان و الرفاه ؟
ما الذي يضر في أن نستمد بعض قوانين حماية الطفل من الترويج أو من كندا ؟
و إذا كانت فنلندا تفوق الآخرين في نظامها التعليمي فما الذي يمنع بأن نتعلم من أنظمتها ما يساهم في نهضة التعليم المصري ؟
و لماذا عندما نقترح بأن نستمد من القوانين الغربية نجد من يخبرنا بأن بلداننا لها طبيعة و عادات فريدة و مختلفة في الحين أن المواثيق الدولية الحقوقية في العالم واحدة ؟
و أيضا هذه الدول الغربية كان لها عادات تسيطر على التقليديين من مواطنيها ، و لكن إبداعهم الدؤوب في تغيير القوانيين حسب المصلحة العامة للشعب و – و ليس حسب الأعراف و التقاليد – كان له أثر كبير في تغيير هذه العادات و الأعراف .
سنجد على حد المثال ذكراً لذوى النسب الكريم في ” الاستراتيجية ” ، حيث نصت في التحديات التي تواجهه ما نصه : [ حرمان بعض كريمي النسب ، و الأطفال المعثور عليهم من بعض الحقوق الصحية و التعليمية ] ، في الحين أننا لن نجد في النتائج المستهدفة فيما يلي هذا القصور، شيئاً عن إلغاء قانون تجريم العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج ، و التي يدفع الكثير من النساء لإلقاء أطفالهم الرضع في الشارع بلا رعاية ! ،و لم نجد أيضاً مقترحاً صريحاً بإلغاء نظام الكفالة و استبداله بنظام ” التبني ” الذي يكتسب معه الطفل اسم الوالد المتبني ، أسوة بالدول المتقدمة حقوقياً و التي يتواكب تقدمها الحقوقي مع تقدمها الاقتصادي ، لأنه – و ياللمفاجأة – يقترن كل منهما بالآخر بعلاقة طردية و ليست عكسية إذا ما كانت ممارسة الإنسان لحقه لا تتعدى على حقوق الآخرين و لا كرامتهم .