محاكم ، جلسات ، مفاوضات، و نقاش مجتمعي يتسم بالزخم في قضية إلزامية تكليف الأطباء بالعمل فترة لدى القطاع الحكومي بشروطه و أجوره التي لا ترضي رغبات هؤلاء الذين دفعوا ألوفاً مؤلفة في كليات الطب و الصيدلة للوصول إلى مستوى مادي و اجتماعي الذي قد لا يخلو من رغبة صادقة منهم أيضاً في مساعدة الآخرين في التشافي من الأمراض.
فقد قالت المحكمة الإدارية العليا، بأن الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان وهيئات التمريض، يحظر عليهم الامتناع عن التكليف، وأن عدم استكمال مدة التكليف أو عدم تسلم العمل بالتكليف يمثل مخالفة قانونية تتوجب العقوبة.
و ذلك بعدما رفض العديد من الأطباء فكرة التكليف باعتباره منافياً لحق الإنسان في أن لا يعمل بشكل جبري في أي قطاع من القطاعات، و في رفضهم لإدانة بعض الأطباء بعد الامتناع عن أداء التكليف.
وبناءا على ذلك فقد أرست المحكمة الإدارية العليا، مبدأ قانونيًا جديدًا، وقضت في 400 حكم بإلغاء الأحكام المطعون فيها الصادرة من مختلف المحاكم التأديبية على مستوى الجمهورية، ببراءة عدد من الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان وهيئات التمريض من الامتناع عن أداء عمل التكليف الصادر لهم من وزارة الصحة بحجة أنه يمثل قهراً على أداء العمل جبراً، وأمرت المحكمة العليا في أحكامها بإعادة مئات الدعاوى إلى المحاكم التأديبية المختصة للفصل فيها بهيئة مغايرة ومحاكمة المطعون ضدهم طبقا لقانون التكليف
وقالت المحكمة أن المستفاد من نصوص قانون التكليف رقم 29 لسنة 1974، أن المشرع أجاز لوزير الصحة أن يكلف الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان وهيئات التمريض والفنيين الصحيين والفئات الطبية الفنية المساعدة بالعمل بالحكومة أو وحدات الإدارة المحلية أو الهيئات والمؤسسات العامة والوحدات التابعة لها لمدة سنتين قابلة للتجديد لمدة مماثلة [ أي بحد أقصى 4 سنوات ] ، وذلك لمواجهة إحجام البعض من هذه الفئات عن العمل بمناطق معينة وخاصة مناطق الريف والمناطق النائية، وتفضيل العمل ببعض المناطق أو العمل الخاص أو العمل بالخارج.
الحبس و الغرامة للممتنعين
وقالت المحكمة بأنه لضمان وصول الخدمة الطبية لجميع المواطنين، اعتبر المشرع المكلف معيناً في الوظيفة التي كلف للعمل فيها من تاريخ صدور قرار تكليفه، وأوجب على المكلف القيام بالعمل المكلف به طوال مدة تكليفه ما لم يتم إلغاء التكليف، و إلا يعاقب بالحبس و الغرامة.
وأضافت المحكمة أنه يحظر على أي شخص معنوي أو طبيعي أن يعين أحداً من المكلفين الخاضعين لقانون التكليف قبل الحصول على موافقة وزير الصحة، كما حدد المشرع العقوبات الجنائية التي توقعها المحكمة المختصة على من يخالف أحكام هذا القانون، وذلك تحقيقا للردع عن مخالفة هذه الأحكام فيعاقب على مخالفة أحكام هذا القانون بالحبس مدة لا تتجاوز 6 أشهر وبغرامة لا تقل عن 200 جنيه ولا تزيد على 500 جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين وتضاعف العقوبة إذا ارتكبت المخالفة في حالة الحرب أو انتشار وباء.
وأشارت المحكمة إلى أنه يحظر على المكلفين الامتناع عن القيام بالعمل اعتباراً من تاريخ تسلمه العمل، وأن انقطاع المكلف عن العمل خلال هذه المدة أو عدم تسلمه العمل يشكل خروجا على مقتضى الواجب الوظيفي مما يوجب مجازاته تأديبيا، لأن ذلك يعد تحرراً بإرادته عن أداة واجب التكليف على عكس ما يقضي به القانون الصادر بناء عليه قرار التكليف، وبالتناقض مع الطبيعة القانونية للتكليف بالوظائف العامة، وعلى خلاف غايات المشرع من تقرير التكليف لبعض الطوائف، والتي من بينها إسهامهم خلال مدة محددة بأداة الأعمال والوظائف التي يكلفون بها، مشاركة منهم في خدمة الوطن، فإن امتنع عن أداء الوظيفة التي كلف بها فقد حقت عليه المساءلة.
وانتهت المحكمة إلى أن المحاكم التأديبية المطعون على أحكامها قد حجبت نفسها عن النظر في مدى صحة المخالفة المنسوبة للمطعون ضدهم وأدلة ثبوتها ومدى استحقاقهم لجزاء تأديبي عنها دون مسوغ قانوني، وخالفت أحكام القانون فيما انتهت إليه على نحو يتوجب القضاء بإلغاء أحكامها المطعون فيها، والأمر بإعادة الدعاوى التأديبية إليها للفصل فيها بهيئة مغايرة وفقا لصحيح حكم القانون.
النظام الصحي في كندا
و نتسائل عن الحاجة لكل ذلك الذي يحدث في النظام الطبي في مصر ، حيث أن بعض النظم الصحية ككندا تقتضي بأن يعمل الأطباء جميعاً بدون تكليف و بلا حبس و بلا غرامة ، تحت وزارة الصحة الكندية ، و يمنع منعاً باتاً لأي طبيب كندي بأن يفتح عيادة خاصة تجارية أو أن يتقاضى على تقديم خدماته الطبية أموالاً من المرضى – إلا في حالات استثنائية يحددها القانون -، فالمرضى كلهم سواء في نظر كندا فقراءاً أو أغنياء ، مواطنين أو لاجئين ، فالجميع تتكفل الدولة بعلاجه بالمجان و تمنح الدولة الرواتب المجزية للأطباء و من لا يرغب في المنظومة لا يكلف نفسه عناء الالتحاق بكليات الطب لكيلا يكون الطب في محل شبهة الاسترزاق من معاناة الآخرين .
و كندا ليست البلد الوحيد الذي يطبق تلك المنظومة الإقليمية الممولة من القطاع العام، فهمو قانون عالمي صدر سنة 1984 تتبعه العديد من الدول الأخرى .
و تلك المنظومة لا تحتاج سوى المزيد منة نسبة الإنفاق على القطاع الصحي الذي سيجند جميع الأطباء و الصيادلة الراغبين في العمل بالطب تحت مظلة واحدة و التي تجعل جميع الصيدليات أيضا عاملة تحت وزارة الصحة لصرف الأدوية – من خلال روشتات طبية فقط – و بالمجان ، و يتلقى الصيادلة رواتبهم من وزارة الصحة و ليس من جيوب المرضى الذين دفعوا ضرائبهم في الأساس لكي تتحمل الدولة مسئوليتها في علاجهم عندما تقتضي الحاجة.
هذه الدول تحترم حق الأطباء في العمل برواتب مجزية و في بيئة عمل لائقة قريبة من منازلهم أو يتم إرسالهم لأماكن أبعد مع توفير سكن كريم لهم ، بينما يعمل أطباء مصر في بعض المستشفيات المتهالكة المزدحمة في ظروف قاسية و رواتب بخسة و قد يكلف أحدهم بالعمل في منطقة نائية لا تتوافر فيها أماكن سكن ملائمة مما يدفع بعضهم لرفض التكليف كما حدث مؤخراً عندما امتنع بعض العاملين بالقطاع الصحي عن العمل في ذروة وقت الوباء بسبب عدم الاستجابة لهم بتوفير بيئة عمل أكثر أمناً .
و يدعي البعض أن المقارنة بين اهتمام بعض الدول ككندا بالقطاع الصحي ليس صحيحاً لأن مصر تعد دولة فقيرة ، وهو ما يتم ترويجه على مدار سنوات طويلة في كافة القطاعات الخدمية التي تحتاج لمزيد من الاهتمام بالرغم من أن الانتقاد الموجه لمصر في إهمالها للقطاعات الخدمية كالقطاع الصحي لا يُقدم هذا الانتقاد مرفقاً بحجم المبلغ المدفوع للقطاع الصحي و لكن ترفقه “بالنسبة المئوية” المخصصة لهذا القطاع من ميزانية الدولة .
و إذا كانت الدول جادة للسير قدماً نحو منظومة صحية مجانية ستضع عبء الأدوية بنسبة النصف على المريض و النصف على الدولة كما تفعل الصين على حد المثال ، مع الالتزام بتقليل هذه النسبة في إطار زمني معين حتى الوصول للمجانية ، مع مراعاة الاعتبارات الإنسانية الاستثنائية التي تتطلب رفع عبء ثمن الدواء بالكامل على بعض الفئات من المرضى.
و ما نعنيه من هذا التقرير في ” جهود ” هو أن دراسة الأنظمة العلاجية بالدول الأفضل صحياً ، و تدرج هذه الدول للوصول إلى هذا الأفضل سيكون ملهماً لمصر في تعديل قوانينها التي تم من خلالها هذا الحكم القضائي الذي يتنافى مع ميثاق حقوق الإنسان و الذي تتعادل قيمته مع القانون العادي، ومن ثم يتوجب على القاضي أن يطبق هذه الاتفاقيات كما يطبق القانون المصري.