تنوعت العقبات التي واجهت صناعة النسيج في الآونة الأخيرة ،و التي تسبب بخروج نحو 2500 مصنع يعمل فى قطاع الصناعات النسيجية من السوق وتصفية استثماراتهم والبحث عن قطاعات أخرى.
و صرح العديد من الباحثين بأن توجه مصر إلى إهمال زراعة القطن لصالح زراعة الفواكه و الخضر كما طلبت الإدارة الأمريكية فى 2007 ، و دخولها في اتفاقية الكويز ، إضافة إلى استغنائها عن آلاف من مصانع النسيج أو خصخصتها ،أثر بالسلب على صناعة النسيج في مصر إلى حد تدرجها من قمة المنافسة إلى قاع الخسارة ، و علت تكلفة الخسارة إلى عشرات مليارات الجنيهات، كما تم إغلاق العديد من مصانع النسيج بشتى أنحاء مصر ، وقامت الحكومة المصرية ببيع بعض أصولها في هذه الصناعة ، وفتح معاش مبكر للعاملين بدعوى أن الإغلاق هو من ضمن “خطة طموحة” للعودة إلى الريادة.
القطن طويل التيلة
يقول أستاذ الغزل والنسيج ورئيس الشعبة بنقابة المهندسين د. حماد عبدالله حماد قال إن سياسات التحرر الاقتصادى وإلغاء الدورة الزراعية أضرت بالخريطة المحصولية لمصر وغيرتها كنتيجة للعلاقات السياسية بين مصر وإسرائيل التى أثرت على الزراعة بشكل حيوى زمن وزير الزراعة الأسبق يوسف والي، إذ إن الخريطة المحصولية لمصر لم تكن فى مصلحة الاقتصاد المصري، والأمر كان فقط دفعا سياسيا فى اتجاه تحقيق تعاون زراعى مع إسرائيل.
وأضاف: مصر كانت بلدا محاصيله الأساسية هى الفول والعدس والبصل والقطن فكيف تغيرت هذه الخريطة فجأة لتصبح الأولوية لمحاصيل الكنتالوب والفراولة؟ وكيف تغيرت الأهداف الإستراتيجية من توفير المحاصيل الأساسية إلى إغراء الفلاح بزراعة الفاكهة والخضر المرتفعة الأسعار على حساب المحاصيل الأساسية لتستبدل السياسة والأهداف بعدها بـ«سنبيع المحاصيل المرتفعة الأسعار ونشترى المحاصيل الرخيصة»!، وهذا أمر يحتاج إلى إعادة نظر لأن الاقتصاد الوطنى يحتاج لتوفير السلع الأساسية أولا، وما حدث من تغيير فى السياسة الزراعية كان خطة ممنهجة ضد الزراعة فى مصر.
وما آلت إليه أوضاع كليات الزراعة فى أشهر الجامعات المصرية دليل على ذلك، فكليات الزراعة هى أقل الكليات كثافة طلابية فى كل الجامعات، باعتبارهم غير مطلوبين لسوق العمل، هل هذا معقول؟!، إذ إنه مهما توجهنا للصناعة كفترة الستينيات، لا يعنى التولى عن الزراعة.
ويؤكد رئيس شعبة الغزل والنسيج أن معونة اتفاقية الصادرات الزراعية والدخول الريفية بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية فى 2007 والتى أسهمت فى تحفيز زراعة المحاصيل البستانية أسهمت فى تحول الفلاحين أيضا بشكل كبير عن زراعة القطن لمصلحة زراعة الخضر والفاكهة، قائلا: يجب أن نعود للتاريخ، فالسياسات الأمريكية لا تتغير بتغير الرؤساء.
ويستطرد حماد: صحيح أن الرئيس الأمريكى طلب تقليل زراعة القطن طويل التيلة لأجل قطن البيما الأمريكي، إذ إن الفلاح الأمريكى كان مهددا دائما لأن القطن المصرى كان يغطى احتياجات السوق العالمي، لكن الموقف الآن مختلف وهذا لا يعنى أننى أوافق أيزنهاور طلبه بتقليل زراعة القطن طويل التيلة، بل أريد أن تضع الدولة خطة للتوسع فى زراعته بالدلتا والصعيد سواء للتصدير أو للإنتاج محليا، لكن ينبغى أن نسأل ما هى استخدامات القطن طويل التيلة؟.
والإجابة هى أنه يستخدم فى صناعة الأقمشة عالية الجودة، فمثلا سعر قميص مصنوع من القطن المصرى طويل التيلة سيكون حوالى 400 يورو، يُستخدم لصناعة هذا القميص 120 جراما من القطن المصرى طويل التيلة، تبيعهم مصر بدولار واحد، فى حين أن القطن قصير ومتوسط التيلة يشكل 88% من إنتاج الأقمشة المتداولة والرخيصة، إذن نحن بحاجة لزراعة القطن متوسط التيلة، شريطة أن يُزرع فى مناطق صحراوية مغلقة يمكن ريها بمياه صرف معالج، لتوفير مليار و250 ألف دولار سنويا للدولة هى قيمة استيراد الأقطان متوسطة وقصيرة التيلة من الخارج، ولكل هذه الأسباب لا يمكن اعتبار الاتجاه الآن لزراعة القطن متوسط وقصير التيلة استجابة متأخرة لطلب أيزنهاور.
ويضيف د.حماد أن برنامج الإصلاح الجمركى الذى وقعه الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى 2001 مع الاتحاد الأوروبى لإلغاء الجمارك على الواردات، لم يكن هناك مفر من التوقيع عليه بعد انضمامنا لمنظمة التجارة العالمية والتى اتجهت مسبقا لفرض إلغاء الحماية الجمركية على كافة المنتجات بين الدول الأعضاء.
لكن هناك إجراءات أخرى تتخذها الدول لحماية منتجاتها المحلية مثل فرض ضريبة قيمة مضافة وضريبة استهلاكية وضريبة مبيعات على المنتج المستورد، وكان بإمكان مصر اتخاذ مثلها فيما يتعلق بصناعة الغزول والنسيج، لكن يبدو أنه كانت هناك مؤامرة ممنهجة على صناعة الغزل والنسيج، ويؤكد هذا ما حدث فى عام 1993، إذ بدأت الدولة فى تقليص المساحة المزروعة بالقطن فائق الطول ومتوسط الطول، لصالح زراعة القطن طويل التيلة الذى ينافسها فيه قطن البيما الأمريكي.
بينما تتميز مصر بالقطن فائق الطول بلامنافس،كما تقوم باستيراد الأقطان متوسطة التيلة، فلماذا تقلل إنتاجها لصالح قطن التصدير؟، الإجابة هى أنه عندما يتم إيقاف صناعة ويتم التعلل بزيادة المزروع من طويل التيلة لتصديره وفى الوقت نفسه يتم إيقاف زراعة متوسط التيلة واستيراده، دون إنتاج طويل التيلة بحجة ضعف المغازل وعدم تجديد ماكينات الغزل والنسيج، لا يمكن أن يفسر ذلك سوى كلمة واحدة هى «العمولات».
فلماذا يقلل المسئول زراعة قطن تحتاجه مصانعه لصالح الاستيراد ثم يوقف تصنيع القطن الذى يزرعه فى مصانعه لصالح التصدير، سوى أن الاقتصاد تحول فى أواخر التسعينيات من اقتصاد قائم على القيمة المضافة إلى اقتصاد قائم على العمولات.
ويفجر حماد مفاجأة قائلا: مصنع كفر الدوار للغزل والنسيج الرفيع حظى بتعاقدات مع ألمانيا وهولندا بقيمة 100 مليون يورو لصناعة ملاءات أسرّة، لم يستطع الوفاء بها بسبب نقص الخامات.
ويؤكد ذلك أستاذ الغزل والنسيج ورئيس الشعبة بنقابة المهندسين د. حماد عبدالله حماد حيث يقول بأن “معونة اتفاقية الصادرات الزراعية والدخول الريفية بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية فى 2007 والتى أسهمت فى تحفيز زراعة المحاصيل البستانية أسهمت فى تحول الفلاحين أيضا بشكل كبير عن زراعة القطن لمصلحة زراعة الخضر والفاكهة، قائلا: يجب أن نعود للتاريخ، فالسياسات الأمريكية لا تتغير بتغير الرؤساء”.
اتفاقية الكويز
يقول د. حماد عبدالله إنه قبل توقيع اتفاقية الكويز، كانت حصة مصر من القمصان محددة بمليون قميص وفقا لنظام الكوته، وكان لدى مصانع الغزل والنسيج فى مصر طاقة تصديرية تزيد عن ذلك، حتى إن الرئيس الأسبق مبارك تحدث مع الرئيس الأمريكى فى التسعينيات بشأن زيادتها، ثم حين وقع بعدها م. محمد رشيد وزير التجارة آنذاك اتفاقية الكويز والتى بمقتضاها صار من حق أى مصنع مستوفى شروط الكويز أن يصدر للسوق الأمريكى كافة منتجاته بدون حصة، لم نستفد من فتح السوق الأمريكي، بسبب معوقات الصناعة من ارتفاع أسعار الكهرباء والضرائب الكبيرة وما إلى ذلك، مما جعل المصنع عاجزا عن زيادة صادراته.
وبخلاف ذلك فالمصنع المصرى يجد نفسه محملا بأعباء كبيرة فى محاولته منافسة المصنعين الآخرين، فمثلا قضية اتفاقية «التيسير العربي»، التى تقضى برفع الجمارك البينية بين الدول العربية على منتجاتهم، أضرت بالمنتج المصرى لأنه مضطر للمنافسة مع منتج آخر بظروف إنتاج مختلفة، ففى الوقت الذى يكون مصنع عربى حصل على الأرض بدون مقابل.
وحصل على قرض بدون فوائد ولا يدفع ضرائب، يكون المصنّع المصرى مُثقلا بضرائب على الأصول الثابتة والأرباح والقيمة المضافة وبأعلى سعر للطاقة بخلاف العامل الغير مُدرب، وفى ظل هذه الظروف المتباينة يكون على المنتج المصرى منافسة نظيره العربى فى سوقه، فيخسر المصرى بالطبع.
كما ينبغى الإشارة إلى قرار رئيس الوزراء الأسبق رقم 1635 لسنة 2002 الخاص بـ«الدروباك» والذى بمقتضاه يتم السماح باستيراد أقمشة من الخارج على أن يتم تصديرها مصنعة خلال 4 سنوات دون أية رسوم، فكيف تضمن الدولة أن القماش المعاد تصديره مصنعا هو القماش الذى دخل البلاد منذ 4 سنوات؟، فالأقمشة المستوردة تباع داخل السوق المصرى لتحل محل المنتج الوطني.
ويصدر عوضا عنها أقمشة رخيصة (دمور وبفته)، ثم يحصل على دعم مادى من صندوق دعم الصادرات للأقمشة التى يتم تصديرها للخارج، وبذلك يخسر المنتج المحلى ويذهب الدعم لغير مستحقيه، بل إن من يسيطر على نشاط الدروباك ويديره فى مصر هو زوج سيدة معروفة لا يقترب منهما أحد.
ويقول حماد إن خصخصة قطاع الغزل والنسيج كانت أكبر كارثة حدثت فى البلاد، لأن الخصخصة لم تفد أحدا باستثناء «العمولات» التى قدمت للبعض.
والحقيقة أن الاتفاقية التى وقعها موريس مكرم الله وحسن سليم رئيس قطاع التعاون الإقتصادى مع الولايات المتحدة والسفير الأمريكى روبرت هيلترو ومحمد البربرى نائب محافظ البنك المركزى وهنرى باسفورد مدير الوكالة الأمريكية فى 1993 من أجل الخصخصة، ألزمت الحكومة المصرية بتوفير 23 مليون جنيه من ميزانية الباب الثالث لدعم العمليات التنظيمية الخاصة بمكتب قطاع الأعمال وكمِنح نجاح للتشجيع على البيع، مما يعنى أن الحوافز المالية كان منصوصا عليها فى اتفاقية الخصخصة.
الحكومة تتعلل باستمرار التهريب ، فمن يراقب على التهريب؟
و كان قد صرح النائب محمد المرشدي رئيس اتحاد غرفة الصناعات النسيجية أن وزراء المجموعة الاقتصادية يعلمون بحجم التهريب ولكن دون اتخاذ إجراءات واقعية وفعلية لوقف نزيف التهريب الذى قضى على الصناعة النسيجية لمصر، قائلا إن قطاع النسيج به 5600 مصنع منتجات نسجية،أغلقت 2600 منها ، والباقي تم إغلاقها بشكل جزئي بتقليل عدد الورديات والمنطقة الصناعية بشبرا الخيمة شاهده على هذا الخراب.
كما صرح محمد المرشدى : ” أن مصانع الغزل والنسيج تعمل فى وضعية صعبة وبنصف طاقتها الانتاجية ولابد من تدخل الحكومة للحفاظ على تلك الاستثمارات”.
ولفت المرشدى إلى “ضرورة وضع حد للمنافسة غير العادلة وعدم استيراد أى منتج له بديل محلى وحماية الصناعة الوطنية التى توفر ملايين فرص العمل فى السوق”.
وقال” أن الغرفة ستخاطب جميع المسئولين للقيام بواجباتهم لحماية تلك المصانع التى تواجة تحديات غير مسبوقة بسبب الظروف التى تمر بها السوق خاصة ارتفاع التكلفة ونقص الخامات وإغراق الاسواق بالسلع المستورة سواء بطرق شرعية او عن طريق التهريب”.
وحذر المرشدى “من خطورة استمرار الاوضاع الحالية خاصة فى ظل ارتفاع اسعار الخامات المستمر وهو ما سيرفع التكلفة ويقلل من المزايا التنافسية للمنتجات المحلية فى مختلف الأسواق التصديرية”.
هل شراء معدات جديدة للمصانع يحل أزمة “نقص الخامات” و “ضعف التسويق”؟
في هذا ، تسائل د. الشافعي محمد بشير في مقال بجريدة الوفد بعنوان : ” جريمة هدم مصنع فستيا ” عن المصادر الإعلامية التي تحدثت عن الـ 7 مليار جنيه ، التى ستنفقها الدولة على المبانى والماكينات الحديثة الجارى توريدها من كبرى الشركات العالمية ، و سأل د.الشافعي تعقيباً على ذلك “هل صحيح أن بيع أرض المصنع لبناء مساكن يحقق أرباحًا لأصحاب الشأن أكثر مما يحققه إنتاج المصنع من الملابس الجاهزة؟ وهل يتفضل أحد السادة نواب وشيوخ البرلمان فى مصر بتوجيه هذا السؤال أو الاستجواب للوزير المسئول؟”
و ألم تكن مشكلة مصنع كفر الدوار للغزل والنسيج الرفيع ، في تلقيه لعرض من ألمانيا وهولندا بقيمة 100 مليون يورو لصناعة ملاءات أسرّة، هو بسبب نقص الخامات و ليس المعدات؟.
وهل قدمت الدولة لصناعة النسيج المليارات من دون أن تدرس الأسباب الحقيقية وراء خسارة و إغلاق آلاف المصانع ؟ ، و إلى متى ستستمر مصر بإنفاق المليارات – التي هي في أمس الحاجة لها- و من ثم إنفاقها على غير البنود التي تحتاجها مصر فعلياً على أرض الواقع.
و نتسائل أيضاً عن أسباب عدم وجود اهتمام بوجود أقسام متخصصة بالجامعات المصرية لتعليم فن الأزياء و رسم الباترون و الذي سيعود على صناعة النسيج بمصر بالتطور من حيث مواطبة الموضة العالمية و سيمكن من زيادة معدلات توريد الملابس إلى الخارج؟
و إذا كان الواقع العملي يدل على تضرر مصر من إهمالها لزراعة القطن حسب الطلب الأمريكي ، و من اتفاقية الكويز ، فلماذا لا تشكل الدولة لجنة متخصصة لدراسة كيفية إعادة صناعة النسيج إلى ما كانت عليه قبل دخول هذه الاتفاقات التي أضرت بمصر؟
كثيرة هي التساؤلات التي يجب أن يناقشها البرلمان المصري و النقابات و المسئولين بتعاون مشترك لحل أزمة صناعة النسيج بدون إهدار للمزيد من المليارات المحكوم عليها بالخسارة في ظل بقاء الأسباب الحقيقية التي أضرت بصناعة النسيج.