نشهد اليوم احتفالاً بعيد الفلاح الذي تقرر بأن يكون هو يوم ذكرى تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي و تفكيك الإقطاع إبان ثورة الثالث و العشرون من شهر يوليو لتتبدل أحوال الفلاحين من العمل كإجراء إلى تملك الأرض.
و نشهد هذه الذكرى بالتزامن مع تذيل القطاع الزراعي قائمة تمويلات البنوك إذ يشكل الحصة الأدنى مقارنة مع النشاطات الأخرى كالتجارة والصناعة والخدمات والقطاع العائلي بسبب ارتفاع مخاطر النشاط الزراعي مقارنة بغيره و تأثره بالتقلبات المناخية و البيئية و أيضا بسبب وجود محاذير تتعلق بمنسوب نهر النيل بعد إتمام مشروع سد النهضة .
و يذكرنا التاريخ بمشاهد مشابهة لقوانين الإصلاح الزراعي مثلما حدث في روما القديمة ،في المرحلة 133- 121ق.م، حيث تم إصدار قانون للإصلاح الزراعي تضمن وضع سقف للحيازة لا يجوز تجاوزه.
وكان هدف القانون من ذلك استرداد الأراضي العامة التي اغتصبها كبار الملاك وأهملوا استغلالها بغية إعادة توزيعها على صغار المزارعين والمحرومين.
في العصور الحديثة نسبياً طبق الإصلاح الزراعي الفرنسي بعد نجاح الثورة مباشرة (1789) فأعتقت الأقنان وألغيت الإقطاعات وجعلت المزرعة الأُسريّة الصغيرة المستقلة أساساً للديمقراطية، وكان إشعاع ذلك عظيماً على الدول الأخرى.
وفي الدنمارك، كانت مرحلة 1786-1813 مرحلة الإصلاحات الزراعية السعيدة والذهبية فقد تحول 60% من فلاحي الدنمرك إلى ملاك.
وبعد ثورة 1848 تم تحرير الفلاحين في كل من ألمانية وإيطالية وإسبانية ووزعت عليهم الأراضي.
وفي روسيا بعد قانون عتق الأرقاء عام 1861 كانت نقطة تحول بارزة، وعبارة القيصر ألكسندر الثاني الشهيرة بهذا الصدد: «إن إلغاء الرق من قبلنا خير من انتظار اليوم الذي يقوم فيه الأرقاء أنفسهم بذلك». وهكذا، فإن الإصلاح الزراعي بوصفه سياسةً اجتماعيةً، أخذت به وطبقته دول كثيرة ، ولذلك فإن المؤتمر العالمي للإصلاح الزراعي والتنمية الريفية ،الذي انعقد بروما في يوليو 1979 والذي حضرته 143 دولة، أعاد التأكيد مجدداً على أن الإصلاح الزراعي يؤلف عنصراً حاسماً لا غنى عنه للتنمية الريفية وأوصى الحكومات التي ما تزال تحتاج إلى إعادة تنظيم حيازة أراضيها بأن تقوم بذلك بسرعة وحزم وأن تتخذ الإجراءات الكفيلة بمنع إعادة ظهور أنماط جديدة من تمركز الأراضي والموارد لقطع الطريق على الاستغلال.
في مصر ، أصدرت الثورة بعد ستة أسابيع فقط من نجاحها، قانون الإصلاح الزراعي الأول برقم 178 لعام 1952 وحدد سقفاً للملكية قدره 200 فدان للمالك.
وفي عام 1961، صدر القانون 127 فخفض السقف إلى 100 فدان، تلاه القانون الثالث ذو الرقم 50 لعام 1969 فخفض السقف من جديد إلى 50 فداناً للمالك و100 فدان للأسرة.
وتخلل كل ذلك قوانين إصلاحية أخرى، تضمنت مصادرة أموال الأسرة الملكية وممتلكاتها وتوزيع الأراضي الموقوفة على الفلاحين وحظر تملك الأجانب للأراضي الزراعية.
سادت بعد ذلك الملكية الزراعية الصغيرة التي أصبحت تشغل منذ منتصف الستينات نحو 57% من الأرض المزروعة في مصر ، وقد رافق ذلك كله بناء السد العالي والمباشرة باستصلاح ما يزيد على 900.000 فدان من الأراضي الجديدة المروية بمياه السد إضافة إلى أراضي الإصلاح الزراعي.
فكانت بذلك الخمسينات والستينات بحق مرحلة فقراء الفلاحين الذهبية في ريف مصر حتى أنه تم تحديد يوم تفكيك الإقطاع كيوم عيد للفلاح المصري .
و يروي محمد حسنين هيكل في 12 ديسمبر 2014 بأنه في أوائل ثورة 52 قد حضر جلسة فيها عبد الناصر واللواء نجيب وجمال سالم والدكتور السنهوري باشا وسليمان حافظ و أنهم تحدثوا عن الإصلاح الزراعي و كان السنهوري باشا يرد على عبد الناصر الذي قال شيئاً عن تفكيك الإقطاع فقال له ” يا بكباشي جمال هذا الكلام غير دستوري لأن دستور 23 لازال يٌعمل به فقال الرئيس عبد الناصر يا دكتور سنهوري وهل أنا دستوري ؟ وضعي كله هل هو دستوري ؟ ” و عقب محمد حسين هيكل على الحوار بأن هذا ما يحدث عندما تصل الثورة إلى الحكم.
يرى المؤيدون للقانون أن أهميته العظمى في إعادة توزيع الأراضي الزراعية على صغار الفلاحين، فيما قد ظهر الكثير من السلبيات التي قد تشكك في صحة قانون توزيع الأراضي و ربما في شموليته و تحوطه من المخاطر المحتملة التي أعقبت عملية توزيع الأرض .
قبل الحديث عن سلبيات الأرض الزراعية المفككة و المقطعة لقطع صغيرة بين الأفراد في مصر نذكر بأنه منذ أيام قليلة قامت هولندا بإجراء مباحثات حول احتمالية تشريع قانون يجبر الفلاحين على القيام ببيع أراضيهم للدولة بتكلفة تصل إلى 17 مليار يورو و ذلك لخفض انبعاثات النيتروجين و تستند الحكومة إلى وثائق وكالة البيئة الحكومية مع التصريح بأن مجلس الوزراء لن يخجل من استخدام القوة و ذلك لتحقيق أهداف بيئية طويلة الأجل .
و بالرغم من رفض جمعية المزارعين في هولندا لخطة الحكومة إلا أنه لا يمكن إنكار بأن القطاع الزراعي يعد أكبر مصدر لتلوث النيتروجين في هولندا . وجدت حكومة هولندا بأن الحد من انبعاثات النيتروجين لا يمكن أن يتحقق حينما تكون الأرض الزراعية ممزقة بين الكثير من الملاك و أنها لا تستطيع إجبار هؤلاء الملاك على تقليل الإنتاج الحيواني الملوث للبيئة للحفاظ على صحة مواطنيها ، فلجأت وزارتي المالية و الزراعة بهولندا إلى حل ( الشراء ) لتنفيذ سياساتها البيئية .
الأفراد غالباً ما يبحثون عن الربح السريع لذلك فإنهم إذا تملكوا أرض صغيرة فقد يخسرونها سريعاً في أول ضائقة مالية من خلال بيعها للاستثمار العقاري أو الصناعي ، و إذا لم يقم ببيعها فقد يستخدم فيها المبيدات بشكل غير آمن و ربما ينتهك الكثير من المعايير الأخلاقية في تربية الحيوانات بالاستخدام المفرط لعمليات التلقيح الصناعى و حبس الحيوانات في زرائب ضيقة و غير نظيفة طوال اليوم ، و بالتالي يزيد من تلوث النيتروجين ،و هو في كل ذلك يواجه ضغوطا كثيرة بقلة مرافق الخدمات في قريته التي قد تصل إلى عدم توافر مياه نقية صالحة للاستخدام الآدمي مع التضييق عليه في التمويلات البنكية لخطورة المجازفة بالاستثمار في مشروع تتحكم فيه الكثير من العوامل البيئية الخارجة عن إرادة الفلاح .
يستيقظ الفلاح صباحاً للعمل في أرضه الصغيرة، وهو يحمل هموم تعليم أبنائه و نفقات سيحتاجونها في الحاضر والمستقبل بينما لا يعرف إذا كان المحصول سيغطي كل هذه النفقات ، ومع نضوج أبنائه تكبر العائلة و يصبح كل واحد منهم مخيراً بين البقاء في هذه الأرض الصغيرة و بين الرحيل إلى المدن حيث يتحول من مزارع – يعرف سر المهنة – إلى أي عمل خدمي آخر ، فتخسر الدولة مهارات المزارعين في أعمال صغيرة قد يقوم بها أي شخص آخر .
ذلك أدى بطبيعة الحال لخسارة الكثير من الرقعة الزراعية في مصر ، في الوقت الذي قل فيه منح المزيد من الأراضي الزراعية للشباب و بالتالي ازداد استيراد مصر للمواد الغذائية التي كان من الممكن أن تتوافر في مصر إذا ما كانت الأرض قطعة واحدة كبيرة و خصبة تمتلكها الدولة و يعمل فيها الفلاحين بأجور عادلة و ينعمون فيها بحياة كريمة أيضا تشمل تعليم لائق و مياه نظيفة و مساكن ريفية أنيقة .
لذا نتسائل في العيد التاسع و الستون للفلاح المصري ، إذا كان الفلاح قد حصل حقاً على حياة كريمة فلماذا يتوافد الفلاحون كل يوم إلى المدن للعمل في مهن بسيطة مثل حراسة البنايات السكنية و حمل شكاير التراب في مواقع البناء ، و هل العمل كأجير في ( بيئة عمل جيدة ) هي إهانة للفلاح أو العامل ؟ و نتسائل أيضاً هل يفترض بأن يمتلك الشباب الذين تخرجوا حديثاً و لم يتم تعيينهم بوظيفة حكومية و تقل أعمارهم عن أربعين عاماً ، هل يفترض أن يملك الشباب بهذه المعايير ثمن 25٪ من تكلفة الأرض ، و أن يمتلكوا أيضاً ما يؤهلهم لزراعة الأرض فور استلامها بجدية ، كما جاء في شروط منح الأراضي الزراعية للشباب في عام 2021 ؟ أم أن هذه الشروط التعجيزية تصب في جيوب احتكار آخر لبعض المستثمرين الكبار مستغلين ثغرات القانون .