بمجرّد النظر إلى تعداد المصابين بكوفيد-19 وموتاه عالميًّا، يتبين أنَّ الكارثة اتّخذت الأهرام الاقتصادية الاجتماعية للقمع والاستغلال قالبًا لها. فالغالبية العظمى من المصابين والموتى في دول الخليج مثلًا هم من العمالة المقيمة في أوضاع معيشية مزرية واكتظاظٍ شديد، وهم الذين أصبحوا في وجه المدافع وقت مواجهةِ الجائحة لشَغْلهم كامل قطاع النظافة والتطهير، بل وتعرّض صحّتهم وحياتهم للخطر باسنتشاق كميات ضخمة من المواد الكيماوية في عمليات تطهير الشوارع لا نفع لها سوى تقديم صورة إعلامية كرتونية عن قوة استجابة الدولة.
ولم يختلف الأمر كثيرًا في «البلدان المتقدمة»، فقد كانت لومبارديا الصناعية مركز الوباء في إيطاليا نتيجةَ سنين من تقليص الميزانية الصحية وقرارٍ سياسي (بضغط من رابطة مُلَّاك المصانع) بإبقاء المصانع مفتوحة لدرِّ الأرباح من عمّالها حتى آخر نفس. تتكرر الحال نفسها في بريطانيا، إذ يبلغ معدل وفيّاتُ عمّال البناء وعمّال النظافة ضِعفَ معدل وفيّات والمدراء وأرباب العمل (وقد تجاوز تعداد الموتى الكلي نظيره في إيطاليا). أمّا أمريكا فحدّث ولا حرج، فمع اقتراب تعداد الموتى إلى المئة ألف وتجاوز عدد المصابين المليون ونصف المليون، يمكن القول إنَّ الأسوأ لم يأت بعد في البلد الذي لا ترى طبقتهُ الرأسمالية المتغوِّلة في الأزماتِ والكوارث إلّا فرصًا تُنتَهز ليس لمراكمة الثروة فقط، بل لتجربة الطرائق المستحدثة للسيطرة وفرض الإذعان أيضًا.
لم تكن هذه الكارثة طبيعية لا في أصلها ولا في محرِّكاتها؛ إذ يستلزم حدوثها سيادةً عالميّة لنظامٍ اقتصاديٍّ جبّارِ المظهر هزيل الجوهر. يبدو هذا النظام منيعًا حتى لحظةِ انهياره. وأيُّ منظومةٍ هذه التي تصاب بالشلل التام لمجرد أنّ شخصًا ما في مدينةٍ ما في هذا الكواكب اشترى وجبةً من أحد الأسواق صادفَ أن حملت فيروسًا مستجدًّا أتى من برّية؟ وحدها المنظومة الرأسمالية عطفًا على إزالتها كلَّ الحواجز الطبيعية ما بين البشر وبعضهم وما بين البشر والبرية.
لا عجب إذن أن يلجأ الناس إلى نظريّات المؤامرة، إذ ليست هذه النظريات إلّا محاولةً بائسة لعقلَنَةِ هذه الفوضى الرأسمالية وإضفاءِ معنىً على عبثيّة هذا الموت المحدق.
إن أردنا فهم ما يجري فلا مفرَّ من مواجهة حقيقة وحشية هذه المنظومة التي عقلها المحرِّك – إن جازت تسميته بالعقل – هو السعي الحثيث وراء الأرباح حتى وإن كانت على حساب حياة البشر (العمّال). هذا يعني إدراك أنَّ توجيه أصابع اللوم لأي طرفٍ وحده ليس إلّا تشويشًا وزيغًا للأبصار عن هذه الحقيقة التي لا تحيد عنها سائرُ البلدان، سواء أكثرها «ديموقراطية» أو أشدّها «سلطوية». وجدوى هاتين المفردتين أساسًا تصبح محلًّا للشك حالما ندرك هذا الواقع.
ولتبديد اللبس الممكن، لم يكن أساسُ المشكلة يومًا «أخلاقيّات» أفراد الطبقات الحاكِمة أو ثقافتها، فالمنظومةُ القائمة تفرز أشخاصًا وأخلاقيّاتٍ وثقافات تُجسِّد مشاغل عقلها المحرِّك ومساعيه (كما تُنتِجَ أخلاقيّاتٍ وثقافاتٍ مناهِضة لهذا العقل في الوقت نفسه). فالمشكلة هي في ذاك العقل نفسه الذي تتفرّع منه الآلةُ الرأسمالية الحاكمة وتنمو لتبتلع كل ما كان ويكون، ليغدو عجلةً من عجلاتها تُزيِّتُ أسنانها دماءُ البشر وعظامهم المسحوقة، ويغدو «تعطيل عجلةِ التنمية» جريمةً لا تُغتفَر.
ولا تقتصر الوحشية على الدول «السلطوية» أو حتى على السياسات الخارجية للدول الرأسمالية المتقدمة، فهذه الأخيرة لا تعاني من انفصامٍ في الشخصية بحيث تنقطع العلاقة والاتصال بين السياسة الخارجية والداخلية؛ إلقاء نظرة سريعة على تاريخ القمع السياسي في الداخل والقمع الإمبريالي في الخارج كفيلٌ بفضح زيف ادّعاء انفصال الخارجي عن الداخلي.
المحرقة النازية و«دروس التاريخ»
تشكّل المحرقة النازية حالةً استثنائية فعلًا من عدّة نواحٍ في التاريخ الأوروبي الحديث. فالإبادة الجماعية المستندة على عنصريّاتٍ كامنة في الأيديولوجيات القومية الأوروبية لم تماثلها أيُّ إبادةٍ داخلية لا قبلها ولا بعدها. لكن عند وضع هذه الإبادة الجماعية في سياقها التاريخي يتبيّنُ أن الاستثنائي فيها يجاوره ما كان عاديًا وشائعًا ومقبولًا في تاريخ القمع في الماضي الأوروبي وحاضِره. تهمّنا هنا ثلاث حقائق:
التداخل المستمر بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية وارتهانهما أساسًا – وليس تفصيلًا – لمنطقٍ واحد هو منطق عقل المنظومة الرأسمالية.
الميل العام نحو تصاعد درجات القمع مع الأزمات الاقتصادية-السياسية، مهما كان شكلُ النظام السياسي (رئاسي، برلماني، تعددية حزبية، حزب واحد، حزبان، إلخ).
ليست الحالة الفاشية الألمانية شاذّةً تمامًا، وإنْ كانت متطرّفة، عن النسق القمعيّ العام في تاريخ قمع الحركات الجماهيرية والعمّالية لا في أوروبا ولا في خارجها، خصوصًا في الفترة الثورية في النصف الأول من القرن.
الحقيقة الأولى: لم تنبت الأيديولوجية الإبادية للفاشية بنسختها النازية – و«حلّها الأخير» – كفقعٍ لم يزرعه أحد، بل تعود جذورها إلى الإستراتيجية الاستعمارية في جنوب غرب أفريقيا (ناميبيا في وقتنا الحاضر) في بدايات القرن العشرين.1 ابتُدِعَت أساسيات هذه الإستراتيجية في معرض التصدي لـ «مشكلة» انتفاضة شعب الهيريرو ضد الاستعمار عام 1904م، فبعد قمعِ الانتفاضة أعلنَ الجنرال لوثار فون تروثا بداية الإبادة الجماعية: «سنبيد القبائل المتمرِّدة بأنهار من الدم» وصرّح بأن الكيان الاستيطاني «لن ينشأ إلّا بعد تجذيرهم التام من الأرض»، وقُتِل ما يقارب السبعين ألفًا من الهيريرو وأجبر آخرون على العمل حتى الموت في معسكرات الاعتقال.2
باختصار، طُبِّعَت الإبادة أولًا كاستراتيجية لدى الطبقة الحاكمة في معالجة الأزماتٍ في الخارج، ومن ثمَّ استُخدِمَت في الداخل ضد قادَة التنظيمات النقابية واليسارية بدايةً ولإبادةِ «الأقليات» من يهود وروما وغيرهم.
في وقتنا الراهن، نرى العتاد العسكري الذي استخدم في احتلال العراق وتدميره قد أعيد إلى البلد الأم لتستخدمه الشرطة في الشوارع الأمريكية، ونرى الشرطة الأمريكية نفسها تتدرب على «مكافحة الإرهاب» على يد قوّات القاعدة الأمامية للاستعمار، العدو الصهيوني، والجدار العازل أصبح نموذجًا يحتذي به اليمين الأمريكي لحلّ مشكلته الاستعمارية الخاصة.
الحقيقة الثانية: لم يكن هتلر تلك الشخصية الكاريزمية التي سحرت الجماهير بقوّة الخطاب، فهذه الصورة ليست إلّا تضليلًا، يراد منه القول بضرورة تقييد الديموقراطية ولجم الجماهير الجاهلة والاعتماد على النخب الحاكِمة «الحكيمة». فالواقع أنَّ هتلر كان أقربَ للمهرّج وَخِطبه في الشوارع كانت أضحوكة للناس، ولم يكسب القوّة التي اكتسبها إلّا بفضل نُخب الطبقة الحاكمة التي استخدمته هو والحركة النازية سعيًا منها لـ «حفظ النظام» وسعيًا لقمعِ الحركة العمّالية التي اكتسبت زخمًا ثوريًّا في وسط أزمة اقتصادية-سياسية عامة.
تواطأت كافة أجهزة الدولة – القضاء والشرطة أساسًا – مع الحركة الفاشية، فكانت الشرطة تغض الطرف عن هجوم الميليشيات الفاشية على الإضرابات العمّالية، وأنزل القضاء أحكامًا انتقامية بحق العمّال المُضرِبين والثوريين في فترة الاضطرابات الثورية (1917-1919م) حتى على أبسط الجُنح، وغض الطرف عن أكثر من 300 جريمة قتل راح ضحيتها نقابيون ويساريون (في فترة 1917-1923م). ويضاف إلى ذلك الحُكم الخفيف على هتلر بعد محاولة الانقلاب الخرقاء عام 1922م على خلفية تهمة الخيانة العظمى، وإفساح المجال له، على نحو غير اعتيادي، باستخدام المحاكمة كمنصّة يلقي فيها عن «مظلوميته» ويقدّم نفسه كبطلٍ ثوري.
استمر التواطؤ حتى وصول هتلر إلى سدّة الحكم التي عجَّل بها سعيُ الطبقة الحاكمة لاحتوائه وضمّه إلى جناحها (فانقلب عليها)، وكما يقول المؤرخ الفرنسي بيار برويه، في فترة الأزمات لجأت الدولة إلى حالة الطوارئ المشروعة دستوريًا، وقد جرت «كل أنشطة الفرايكوربس، والقمع في برلين في آذار/مارس [1919م]، وحتى إرساء دكتاتورية هتلر لاحقًا، ضمن إطار الدستور، الذي صوّره المدافعون عنه وقتها كـ «أكثر الدساتير ديموقراطية في العالم»».
في وقتنا الراهن، نرى تواطؤ الطبقات الحاكِمة ومخالفة الأعراف والقوانين لضمان عدم وصول يسارٍ (إصلاحي) إلى رأس السلطة. ولا نغفل هنا أن حركات المقاومة اليسارية المعاصرة ليست بالمستوى الذي يدفع هذه الطبقات للارتماء في أحضان الفاشية.
ثالثًا: رأت الطبقات الحاكِمة الأوروبية في صعود الفاشية بادئ الأمر سبيلًا لقمع التهيّج الثوري للعشرينيات. بعبارةٍ أخرى، لم تكن محاباةُ قادةِ الدول الأوروبية لهتلر نتيجة «سقطة أخلاقية» كما يصوِّر الإعلام اليوم، بل ذلك نتيجة تفضيلهم القمع والإبادات الفاشية على التخلي عن ثرواتهم وتحّكمهم بالاقتصاد والسياسة لصالح ثورات الطبقات الشعبية، بل وفضلت الطبقة الحاكمة الفرنسية الخضوع للاحتلال الفاشي على التحالف مع الطبقات الشعبية لصدّه، وكانت القيادات الفاشية واعيةً لإمكانية التوافق مع القوى الإمبريالية الكبرى، فكان موسليني يرغب بالتحالف مع بريطانيا وكان هتلر آملًا بتقاسم العالم مع أمريكا واليابان.
وحتى البلدان التي لم تصل فيها الفاشية إلى سدّة الحكم لم تسلم من اشتداد القمع، فقد شهد الساحل الغربي للمحيط الأطلسي في تلك العقود فترتي قمع شديد على الحركات العمّالية واليسارية أشهرهما سُمِّيَت بالمكارثية، ناهيك عن معسكرات الاعتقال للأمريكيين ذوي الأصول اليابانية.
وتاريخيًا، حتى وقتنا الراهن، وظَّفَت القوى الغربية الإمبريالية الضبّاط النازيين في قمع حركات الاستقلال في العالم الثالث، و«رُدَّ الاعتبار دون تردد»، حسب تعبير المفكر الراحل سمير أمين، لسالازار في البرتغال وفرانكو في عام 1945م، لضمان خنق الحركة الشعبية في البلدين. بل وهندست أمريكا في 11 سبتمبر 1973م انقلابًا فاشيًّا في تشيلي لإسقاط الرئيس الاشتراكي الإصلاحي (المُنتَخَب ديموقراطيًّا) سالفادور أييندي، واستمرّت تدعم الفاشية التشيلية حتى سقوطها مطلع التسعينيات.
يغلب على النظر إلى المحرقة النازية (وتاريخ المذابح والقمع والاستعمار مِنْ قِبل القوى الأوروبية عمومًا) نظرةٌ بالغة الوقاحة بحق ضحاياها وَمُقاوِميها، فتُحَوّل إلى مواعظ أخلاقية فجّة مفادها أنَّ «الإنسانية» قد «تعلّمت الدروس» من هذا التاريخ، وها هي قد صارت تمضي في طريق تقدّمٍ لا رجعةَ فيها إلى عالم طوباوي أجمل وأفضل. لكن عند معاينة هذا المنظور سرعان ما ينفضح ما يَغفَله أو يبعده خارج إطار عدسته: الانقسام الصارخ بين مَن تواطأ مع القتل وَمن قاومه أو راح ضحيته؛ فمن قاومه وقاومته لم تحتج «دروسَ تاريخ» لتعلِّمَها حقيقةَ ما تواجه. وهذه المعاملة للتاريخ بوصفه فصولًا انتهت وتعلَّمنا دروسها تغيِّبُ واقع استمرارية الصراع.
تطمئن كبرى صحف رأس المال، الفاينانشال تايمز، كبارَ المستثمرين من أنَّ نسبة وفيّات جائحة الكورونا «لحسن الحظ» ليست عاليةً – مقارنةً بالطاعون الأسود – إلى الحدّ الذي يعطي الطبقات الكادِحة القوّة اللازمة لمواجهةِ رأس المال. فالطاعون الأسود أجبرَ الأرباب الإقطاعيين على التنافس على الفلاحين جراء قتله جموعًا غفيرة منهم، مما أكسبَ من تبقّى على قيد الحياة منهم قوّةً أكثر للمطالبة بحياةٍ أفضل.
هذا هو طابعُ العالم الذي نعيشه اليوم: طبقةٌ حاكمة ليست قلقةً من الموت والدمار المحيطين بنا، بل من أنَّ هذا الموت قد يعطينا بعض القوّة لمواجهتهم. ففي حين نخاف من الموت الذي جلبه نظامٌ يحفظ سلطتهم وامتيازاتِهم، يخافون هم من أن نجد في هذا الموت قوّة.
وما إذا كان خوف الطبقات الثرية «مشروعًا» أم لا، وما إذا كانت هذه حربًا طبقية من طرفٍ واحدٍ أم طرفين، هما أمران مرهونان بما نفعله نحن الآن وفي الفترة القادمة. ففي زمن رأسمالية الأزمة الدائمة، تتحصَّن الزمر الحاكمة والطبقات الثرية في «مناطق خضراء» وسط محيطاتٍ من الخراب والدم التي تحميها دولٌ متزايدةُ العسكرة. أمامنا خياران: إما نعدَّ العدّة ونستكشفَ طرق المقاومة أو نغرق في هذا المحيط.
الكاتب مترجم مهتم بتاريخ الحركات الاجتماعية والتحررية
نقلا عن “الهامش”