حتى وقت ليس ببعيد كنا نحن جماعة الصحافة نراهن النقيب القادم على مسألة الحريات وقضايا المهنة وإصدار الصحف بالإخطار وما إلى ذلك من مسائل كنا نظنها أولوية أولى، وجاء الوقت الذي نقايض فيه النقيب والمنصب والمهنة والحريات برغيف خبز ممزوج بعطايا الحكومة وهدايا النظام وبعض دقيق نطرحه في بيوتنا، لعله يسقط من أذهاننا هواجس ومخاوف الغد القادم دون دقيق، والنقيب القادم أيًّا كانت ملته أو وجهته أو التيار المنتمي إليه أصبح مدركًا لتلك الحقيقة إذ لا يتورع أن يسرب عبر حاشيته تصورات عن المبلغ القادم في جعبته، إضافة إلى البدل الذي كان مقررًا للتكنولوجيا والمعلومات، فأصبح ثمنًا لرغيف خبز يسد جوعة الصحفي وبناته وأبنائه.
معركة النقيب القادم في نقابة الصحفيين تختزل الآن في عدد الأرغفة من الخبز التي يمكن أن يضيفها النقيب تسولًا من الحكومة، وكلما زاد المبلغ حظي المرشح بأصوات الأغلبية، فهل فرط الصحفيون في قضيتهم الأم وهي قضية الحريات؟
ليس صحيحًا فكما يرى ابن تيمية أن إيمان المرء لا يكتمل دون سد حاجاته، وكما قال سيدنا على رضى الله عنه: “لو كان الفقر رجلًا لقتلته”، وكما قيل عن أبي ذر الغفاري إنه كان يردد: “عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهرًا سيفه”، وكما قال أبو حنيفة: “لا تستشر من ليس في بيته دقيق”.
قلم في مواجهة الحصار
ودقيق الصحفي كان قديمًا حريته، أما الآن فقد أصبح دقيقه دقيقًا، وسيف الصحفى كان قلمه أما الآن فقد أصبح بحثًا عن طريق لمهادنة صاحب الخزينة ومالك مخزن الدقيق، ومن بيده الأمر بإفقار الناس أو إغنائهم، والمثير أن الطرفين قد ارتضيا الوضع الراهن فلا الحكومة ترغب في إزعاج القلم، ولا الصحفيون متمردون ومشهرو أقلامهم ضد الحكومة..
كلا الطرفين قد ارتضى أن يكون الدقيق أو الخبز ثمنًا ومعيارًا وحكمًا يحتكمون إليه، لذا سيقول المترشح القادم إنه نجح في التفاوض مع الحكومة على زيادة بدل الصحفيين، ولن يفكر أحد في أن هذا البدل هو بدل الحرية، وأنه شبيه بذلك البدل الذي كان يدفعه الأغنياء قديما لأولادهم كمقابل لأداء الخدمة العسكرية قبل أن يكون لدينا جيش حقيقي لا يرى الناس إلا كأسنان المشط.
بدل النقابة وعطية النقيب هي ترسيخ لاستبدال قيم الحريات بقيم سد الجوع، والأخير يكسب بالطبع، فليس من المنطقى أن يسأل صحفى عن رأيه وليس في بيته دقيق.
عندما كانت الصحافة صاحبة جلالة
منذ قديم الزمان والحكومات المتعاقبة كانت تدرك أهمية إفقار الصحفيين وربط مصالحهم بمصالح الحكومة، غير أنها لم تكن قادرة على سد كل الحنفيات.. كانت هناك إصدارات صحفية كثيرة وقنوات فضائية أكثر ومكاتب للصحف العربية والأجنبية أكثر وأكثر، وكان الصحفيون يتنقلون للعمل هنا وهناك.. لم يكونوا مقيدين بدقيق الحكومة.. كان هناك دقيق آخر.. دقيق غير مخلوط بتراب الذل.. دقيق فاخر، وعندما كان للدقيق أو الخبز مصادر كثيرة كانت قضايا الحريات على رأس كل انتخابات نقابية، وبعدما أصبح للدقيق مخزن وحيد فملعون أبو الحريات وقضايا المهنة فالأهم الآن كم سيصير بدل الصحفيين في الانتخابات القادمة؟!!
وعلى قدر أهل العزم تأتى العزائم، وأهل العزم تراجعت عزائمهم أمام غول الحاجة وفقر المشهد وتقلص الفرص وتهاوى الضمائر، وعلى نفس القياس لا تستكتب صحفيًّا ليس في بيته خبز، ولا تسأل صحفيًّا عن رأيه ومعدته يسكنها الخواء، وأولاده هناك يقفون في طوابير المدارس والدروس وطوابير اللحوم المجمدة والشتاء بارد لمن ليس لديه سقف!!
الكاتب رئيس تحرير “فيتو”
نقلا عن “فيتو”